Reader Mode

سؤال: ما رأيكم بمشاركة بعض المدارس من مرحلة التعليم المتوسط وفوزِها في المسابقات الأولمبية للمشاريع والعلوم التي تنظم محليًّا ودوليًّا في السنوات الأخيرة؟

الجواب: من المهمّ جدًّا أن تتقدّم مدارس تمثّل الأفكار والآراء المنبثقة من قلب هذه الأمة المختمر بخميرتها للمشاركة في مسابقات الأولمبياد العلمية أو مسابقات المشاريع التي تنظم محليًّا ودوليًّا؛ إذ إنّ على مَنْ سلكوا الطريق منفتحين على المستقبل عازمين على احتضانه بكل ما فيه ألا يغفلوا هذه الحقيقة ولو لحظةً واحدة، لا سيما أن هذه المسألة لم تُدرج حتى اليوم في سياسة الدولة، فصار الاهتمام بهذا الأمر والعناية به مطلقًا واجبًا مهمًّا يقع على عاتق من يحبّ وطنه وأمته، ويمضي بها نحو المستقبل أفرادًا وجماعات، ولو أنّ رجائي يُسمع لرجوت المسؤولين قائلًا: “هلا تجعلون هذا الأمر من سياسة الدولة”، لست أدري هل يوحي إليكم مثل هذا الرأي بشيء يدلّ على أهمية المسألة؟

ويمكن تأصيل هذه المسألة شرعًا: لقد لقي هذا الضربُ من الفعاليات العلمية التشجيع دائمًا، سواء في عصر السعادة كما في بعض الوقائع الفردية، أم في عصور غدا فيها الفقه مدارس وتطور إلى مذاهب، وهذا طبعًا وفقًا لظروف كل فترة، وقد تابع الجميع باهتمام وفي مقدمتهم السلاطين والخلفاء تلكَ التطورات التي حدثت في شتى فروع العلم، ومُنحت المكافآت للمتفوق منها، وفي الواقع أليست تلك هي محصلات هذا المفهوم الذي جعلنا أصحاب الكلمة عالميًّا على مدى قرون طويلة؟

وإن هناك شبابًّا قادرًا على حماية ذاته وتحصين شخصيته دون السقوط في عقدة الدونية، يشاطر أمته الفكر نفسه والروح عينها بل يشعر معها المشاعر والأحاسيس ذاتها ويعيشها، وإن مشاركته في الأولمبيادات العلمية ونجاحه فيها محليًّا ودوليًّا ممثِّلًا لبلادنا له أهمية كبيرة جدًّا عند العالم أجمع لا سيما أمتنا؛ ذلك أن عصورًا مرت تسود فيها دعاية تزعم أنه “لا يخرج من رحم العالم الإسلامي عالِم”، وهو ما كان يصيبنا بالشلل عادةً، بل أثرت فينا هذه الدعاية حتى النخاع، حتى إنني كدتُ أصدّقها رغم أنني مفعمٌ بالأمل داعٍ إليه، لطالما تحدثتُ عنه سنوات طويلة. أجل، لقد قوّضَتْ وهزمت هذه النجاحات التي تحققت بلطف الله الدعايةَ المذكورة، تلك الدعاية التي استقرّت محلّيًّا ودوليًّا ولدى الصديق والعدوّ.

والحقيقة أن الغرب الذي يسحقنا ماديًّا بقوّته وقدرته منذ عصور يسحقنا نفسيًّا أيضًا بهذا النوع من الدعايات، فتُسيطر علينا جميعًا في هذا المقام عقدة الدونيّة، تسيطر علينا لأنه لم تكن تلوحُ في أُفقنا ولو أمارة فجر كاذب يحول دون هذا، غير أنه ليس الأمر كما كان، إني أظن أننا سنتمكن -بعناية الله تعالى- من تحقيق نجاحاتٍ أعظم في مشاريع أكبر وأكبر في السنوات المقبلة، وذلك بفضل الاطمئنان الذي نعيشه إثر تخلصنا من هذا الانسحاق.

وثمة فائدةٌ محلّيّةٌ لهذه النجاحات: منذ سنوات طويلة كان بعضهم يُطلق على تلك المدارس اسم “الكتاتيب” -أعظِمْ بشأن الكتاتيب وأنعِمْ-، إلا أنّ هذه المدارس أسهمت في تقديم كثير من الأفكار النافعة لبلادنا وأمّتنا، منها: سبرُ أغوار الكون -انطلاقًا من حقيقة أن “القرآن يقرأ الكونَ والكونُ يقرأ القرآنَ”-، والوقوفُ على الحوادث الطبيعية التي تجري في العالم، واستقراء الأشياء ودراستها بعمق، وبلوغُ الأفق الذي أشار إليه القرآن على لسان النبي وتقديمُه لخدمة البشرية؛ ثم إنّ تحقُّق هذا الهدف، بل بلوغ قمّته أي تحقيقَ النجاح في المسابقات العالمية قد غيّر ما كان يُقال عن تلك المدارس، وجعلها موضع اهتمام الناس من القاعدة إلى القِمَّة؛ فالحمد والثناء كلّه لله الذي منَّ علينا بتلك النعم.

هذا وقد طَمْأَنَتْ تلك النجاحات من يدعمون بإخلاصٍ تلك المدارس اطمئنانًا بالغًا، فلقد اطمأنّوا لِما فعلوا وهم يتحدّثون مع الناس، وصاروا يفخرون بالانتساب إليها وبينما هم في دعمهم الصادق مستمرّون حتى اليوم بأضعاف مضاعفة صاروا يتّخذون من هذه النجاحات وسيلةً للحصول على دعم الآخرين للمدارس، وبدؤوا يستخدمون هذه الوسيلة في كل المحافل.

وعندما تتحقّق هذه الأمور جميعًا فلنعلم أن تلك النجاحات التي تحقّقت، والمستوى الذي بلغناه ليس هو الهدف أو نقطة النهاية، إننا نعدّ تثبيطَ الهِمَمِ إثمًا؛ ولهذا فما تُنجزونه بطريقةٍ بدائيةٍ اليوم هو أرضية وبنية أساسية لمشاريع ستُنجَز بحِرفِيّة في المستقبل إن شاء الله، ستؤسَّس في بلادنا -بإذن الله تعالى- قريبًا بدائلُ وكالة “نَاسَا (NASA)” الأمريكية التي يغبطها العالم أجمع، والأيام التي ستنسب فيها براءات الاختراع للعلماء المسلمين قريبة آتية لا محالة.

أمر آخر لا بدّ من تذكره دائمًا، وهو أن ضبطَ مؤشّر القلب ضبطًا جيّدًا في كل مرحلة من ألفها إلى يائها، ومن البداية حتى النهاية وإخلاصَ النية شرطٌ بل فرضٌ، قلنا من الألف إلى الياء، أي بدءًا من الطلاب الحاصلين على ترتيب في هذه المسابقات حتى المدرسين الذين ينشِّئونهم، وأولئك الذين لا يضنّون بالدعم المادّي والمعنويّ، وجميع القلوب المشجّعة من الرجال والنساء الذين يفرحون بهذه النجاحات وليس لهم أيّ دور… أجل، إن على هؤلاء جميعًا أن يضبطوا مؤشرات قلوبهم جيدًا، وأن يشكروا الله “شكرًا مطلقًا” دائمًا؛ فلا بدّ أن يشكر كلُّ إنسانٍ ربّه كما يفعل طبعًا بعد كل نجاح يحققه؛ يشكره وَجِلًا مستهديًا بالبيان الإلهي السماوي: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 14/7) وأن يسجد شكرًا لله، ويتوجّه إلى الله تعالى متضرّعًا متحرّقًا بنشوة الشعور بحقيقة التوحيد في ذاته كلّها؛ لأننا نعلم ونؤمن إيمانًا قاطعًا بأن كلّ شيءٍ نحظى به إنما هو منه تعالى.

ولنختم هذا الموضوع بتحديد هدف: ألا ليت بعض الدراسات تبحث كِلا مرضَي السرطان والإيدز! أجل، فالعثور على علاج لهذين المرضين الفتّاكين الخبيثين يمثل خدمةً عظميةً للبشرية جمعاء، حتى إنه يمكن القول بأنه إذا ما اتحدت مائة مدرسة بطلابها ومدرسيها وبطاقاتها المادية، وصارت دواءً لداء السرطان، فأحيت نفسًا واحدةً فقط، فلعل الله يُدخِل كل هؤلاء المؤمنين الجنة، ناشدتكم الله: لو أنكم كنتم ذلك المريض، وفُتح لكم باب الجنة في الآخرة، ألا تقولون: “يا ربي لا أريد الدخول حتى يدخل هؤلاء الذين أنقذوني من مرضي”؟

شاهدت في برنامج على التلفاز قبل فترة سيدةً أصابتها إبرة ملوّثة بفيروس الإيدز، إنني لا أملك مشاعري كلما لاح لي هذا المشهد رغم مرور شهرين أو ثلاثة عليه، وأجدني لا أتمالك نفسي ولا دموعي، فقد كانت السيدة تبكي؛ فهي سيدة عفيفة، وهذا المرض ينتقل بالعدوى عن طريق الزنا كما شاع وذاع، وربما كانت تلك المرأة تبكي وتموت ألـمًا خشية أن يُظَنّ بها هذا.

أجل، على المتطوعين من أهل العلم والمعرفة أن يبنوا دراساتهم على هذا الفكر والمعتقد عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”[1].

[1]الطبراني: المعجم الأوسط، 6/58.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts