Reader Mode

أ- التبليغ والحياة

إن أهم قاعدة من قواعد التبليغ أن المبلّغ يحيا بما يبلّغ، ويبلّغ بما يحيا، ذلك لأنه على الصراط السوي للمؤمن الحقيقي. والمؤمن الحقيقي يعني مَن بلغ إلى تكامل الظاهر والباطن. فلا تخالف بين الظاهر والباطن في هذا المؤمن. أما الحياة الازدواجية فهي صفة النفاق، ويتنـزه المبلّغ الصادق من مثل هذه الأخلاق المذمومة، وما ينبغي له، ولأن صفة الإيمان قد أراه أفق الأخلاق الرفيعة، بأن ليس له إلا تبليغ ما يحيا به في كل زمان و مكان.

ومن جهة أخرى يعلم المبلّغ أن النصائح والإرشادات التي لا تتحول إلى حياة معيشة، لا تورث نتيجة إيجابية في وجدان الآخرين، إذ الأقوال والأحوال الخالية من الإخلاص لا يلطف الله سبحانه بها باليمن والبركة. أما ما نشاهده من نجاحات في بعض أعمال غير المخلصين أو شبه المخلصين، فهذا نابع من عدم وجود البديل، زيادة على أنها عابرة، أو أن تحقق مثل هذه الأحوال أحياناً نابع من عدم وجود من هو أفضل إخلاصاً في حينه، أو من عدم تمكن المخلصين الصادقين من تكوين مركز جاذبية بعدُ. ومتى ما حان وقت انتهاء غير المخلصين يحكم عليهم القدر به. وقد جرى هذا القانون الإلهي منذ القدم إلى يومنا الحاضر؛ لذا لا يخدعنّ المؤمنين وأهل الفراسة النجاح الجزئي والعابر لغير المخلصين أو ناقصي الإخلاص.

ويمكن أن يكون مثالاً لهذا بعض النجاح الذي أحرزته الشيوعية والرأسمالية، فكلا النظامين ظهرا في فترة واحدة، وظهر كل منهما بديلاً عن الآخر، ولعدم وجود تيار أفضل وأكثر إخلاصاً في تلك الفترة التي ظهرت فيها هذه التيارات النفاقية المغفّلة، نمت وانتشرت. ويمكن أن نقول إن المخلصين المتيقظين أخذوا يتقصون الحوادث عن كثب، فلا يباع بعد الآن في سوق العالم إلاّ متاع من كان مخلصاً، فهم الذين سيجدون زبائن لهم. فلقد حان أن يطرد غير المخلصين من هذا السوق الإلهي. فالشيوعية الباطلة المحكوم عليها بالزوال منذ ولادتها، قد أخرجت وطردت من سوق الحقيقة والإخلاص واُلقيت كنفاية على جانب. ولعله قد آن أوان دعوة أهل الإسلام أن تكون البديل الوحيد، كما يبدو أمام النظر.

إن تبليغ ما يحيا به المبلّغ، أو بتعبير آخر تبليغ ما يمثله، إنما يحصل بمحاسبة المرء نفسه محاسبة مستمرة، ومراقبة وجدانه لذاته. ولم يشاهد أن نجا من الحياة الازدواجية مَن يعيش للجسد ولم يتكامل بعدُ؛ فحاملو هذه الأرواح لا تنم أوضاعهم عن حقيقتهم ولم يصبحوا قط كما يتصرفون ويسلكون، وكل ما يعرضونه في المجتمع من احترام ونضوج واستقرار هي أمور متكلفة، شكلية، صورية، فما قوبلوا من لدن الآخرين إلاّ بالاستثقال والكراهية. فهؤلاء عندما ينفردون بأنفسهم مهملون غير جادين، وهذا دليل عدم النضوج وعدم القدرة والكفاية، وإزالة هذه الأمور مرتبطة باعتقاد جازم وتوكل كامل وانقياد جاد.

نعم، المبلّغ يدقق في هذا الأمر، فكما هو أمام الناس يكون كذلك في انفراده، ويسعى لتكون جميع أحواله وتصرفاته وسلوكه الخفية والظاهرة خالصة صادقة فيظهر من الأطوار الفردية والاجتماعية ما لا يوقعه قطعاً في ورطة التناقض. إن ليالي المبلّغ جلية كنهاره، ونهاره ساطع كالشمس، وإذا ما ارتكب خطأ -ولو صغيراً- لغفلة طارئة انكفأ على نفسه وحاسبها حساباً عسيراً حتى تئن من ثقل حسابه. فيخجل من أن يتكلم عن الصلاة نهاراً وقد فاته التهجد ولم يتنور ليله،و يستفرغُ الدمع لإزالة لوثة تعلقت بعينه من نظر حرام، واللقمة التي فيها حرام أو شبه حرام تصبح غصصاً في حلقه ومغصاً في بطنه، وانحراف طفيف في روحه يجعله يستشعر به كلهيب جهنم.

نعم، إن الأفكار التي لا تجد مجالاً لتطبيقها على صاحبها، لا تجد حسن القبول المطلوب لدى الناس مهما كانت جاذبة وضرورية للحياة؛ إذ الكلمات لم تنطلق من وجدان القائل، ومن المحال طلب استقرار فكر لم يستقر بعدُ في وجدان صاحبه.

بـ- التبليغ والمعيار (كمحور للحياة)

الإرشاد والتبليغ في المجتمع الإسلامي ليس وظيفة فحسب، بل هو بمثابة معيار ومقياس لكل شيء، حيث يقيس أفراد ذلك المجتمع جميع شؤونهم وفق ذلك المقياس وينظمون أوقات يومهم وفقه، ويمضون لياليهم تحت أنّات هذه المسؤولية. لذا لا يكون معياراً مجيء شخص إلى المسجد أو عودته من فريضة الحج، أو مشاركته في احتفالات المولد النبوي وما شابه، بل المبلّغ الجيد يتجنب كلياً من كل ما يومئ إلى تحويل الدعوة إلى مراسيم وطقوس وشكليات، تلك التي تفني روح التبليغ والإرشاد. ولكن ربما تكون هذه الأمور والأساليب مسلية لبعضهم إلاّ أنها بعيدة كل البعد من أن تكون معياراً في المجتمع. والحقيقة أن في مقدمة الأسباب لِتردي المجتمع وسقوطه وجَعْلِ قوّته المادية والمعنوية عقيمة بائرة هو عدم القيام بـ”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بشعور كامل، وبخطة تامة.

علينا أن نعتقد أن هذه الوظيفة السامية في يومنا هذا دَين فطري في عنق كل فرد من أفراد المجتمع، لأن دوامات الفتن ومستنقعاتها المترشحة من ثغرات البشرية، تجرف الأفراد أولاً ثم المجتمعات المتكونة منهم، وترميهم في أودية الهلاك السحيقة.

نعم، نؤكد تأكيداً جازماً أن هذا الأمر أمر إيماني قبل كل شيء، ولم يزل الذين نصروا هذا الدين إلى الوقت الحاضر وتبنّوا قضيته هم الأقوياء إيماناً، وهكذا كان الأمر وهو كذلك اليوم نفسه، وسيكون غداً أيضاً على المنوال نفسه. إن ما قام به ثلة مخلصة قوية الإيمان من حركة الإرشاد والتبليغ في مجتمع كبير، إذا بها قد لاقت في وقت قصير قبول وجدان جم غفير من الناس وتكون همهم الأول، ولا يمكن إيضاح هذا إلاّ أن الصفة المميزة لهذه الحركة هي بُعدها عن الأمور الشكلية والمراسيم.

والحركة البعيدة عن المعاناة والمقاساة لا تنجو من شِباك الشكليات وأسر المراسيم. والحقيقة أن الحركات التي قامت على المراسيم والشكليات، لا يخطر ببال أحدهم السجن، الدموع، المعاناة الفكرية، وبالتالي تخلو من الإخلاص والمحبة والاحتضان.

الخلاصة: أن المرشد ينظم كل حركاته وتصرفاته وسلوكه وفق حياته الإرشادية، فإذا ما أراد الذهاب إلى مكان يذهب إليه متفكراً بالإرشاد. أي يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد متفكراً بالإرشاد والتبليغ. فلا مكان للتنـزه الخاص في حياته، بل يسعى لتنسيق حاجاته الفطرية وفق استقامة دعوته السامية. إذ يعيش تحت وطأة يوم يُسأل عن عدد أنفاسه. وهذا هو سبيل الأنبياء والصديقين والأولياء والشهداء؛ فلقد بلّغوا ما كانوا يعيشونه، وعاشوا ما بلّغوه، بخلاف المنافقين الذين يبلّغون ما لم يفعلوه، ولم يعيروا سمعاً لما بلّغوه، فتراهم يغوصون كل يوم في دوامة طريق غير مستقيم، فضلوا وأضلوا من تبعهم، فهلكوا وأهلكوا. “أوحى الله تعالى إلى عيسى u وقال له: عِظْ نفسَك فإن اتعظتْ فعِظ الناس، وإلاّ فاسْتحِ منّي أن تعِظ الناسَ”.( )

وفي الحقيقة، إن هذا الخطاب ليس موجهاً إلى سيدنا عيسى u كنبي وإنما كداعية لله سبحانه وهو في مقام الإرشاد، ولهذا يرد الخطاب: يا عيسى، أي إن الخطاب موجه إلى النبي وإلى كل من يتولى أمر الإرشاد والنصيحة، بأن يعيش ويحيا شعورياً بما يبلّغ وينصح كي يؤثر في غيره. والقرآن الكريم يوضح هذه المسألة بأوضح بيان في قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾(البقرة:44) فالكتاب يوصي أول ما يوصي هو أن تبدؤوا أنفسكم بل يفضلها بالأسبقية.. أفلا تعقلون هذا وأنتم تتلون الآيات؟

لا شك أن هذه الآية الكريمة تهديد واضح لبني إسرائيل، وتنبيه للمسلمين في الوقت نفسه، إذ تقول لهم: إياكم أن تقولوا ما لا تفعلونه. لأن عدم القيام بما يقوله المبلّغ صفة نفاقية وخداع كما ذكرنا. وقد شهدنا كثيراً في فترة الانحطاط عدم جدوى كلام من سلك هذا السلوك بل فَقَد ثقة الأمة به.

كثيرون جداً من يمثلون الجانب الفكري للإسلام، أو يشرحونه بأسلوب أكاديمي، حتى إنه ينتج أفكاراً في هذا الميدان، ولكن لأنهم لا يحيون بما يقولون، أصبحوا أثراً بعد عين، ذلك لأن سلوكهم ما كان مستقيماً، وكلامهم ما كان نابعاً من صميم إيمانهم، علماً أنهم كانوا يشرحون “الصراط المستقيم” للناس ويدّعون أنهم يرشدونهم، ولكن ما أن هبّ نسيم خفيف حتى اهتزت الأوساط، فكان ذلك كافياً لينتهوا كلياً، بل نسوا ما كانوا يقولونه للناس وكذّبوا بكل ما يقولونه وأصبحوا في صفوف الجبهة المعادية مدافعين عنها بقوة. وفي النهاية هلكوا وانخرطوا مع المعدومين، ولكن يا للأسف مسحوا حضارة كاملة من الوجود.

جـ- التبليغ والمعاناة

إنه لقدر إلهيّ أن تترافق وتتداخل وظيفة التبليغ والمعاناة معاً بلا انفكاك؛ إذ الأشياء التي تحصل بصعوبة وتعب تحظى بالاهتمام والعناية والمحافظة، بينما الثروات التي حُصِلَ عليها بدون جهد أو نصب لا يستغرق استهلاكها سوى دقائق. ولاسيما إن كان الأمر يتعلق بتعريف الناس بالله، فإن هدر هذا الأمر يعني إنهاء أهم أساس لغاية وجود الإنسان وإنهاء ضمان بقائه. وهذا يعني مباشرة عدم جدوى وجود الإنسان على الأرض. لذا فالإنسان مضطر لإدراك هذه الوظيفة السامية كي يجعل لوجوده جدوى ومغزى.

 في الأمس نقل ناس من سجن إلى آخر، بل غدت سجون البلاد بيوتهم ومساكنهم، إذ لم يبق نوع من عذاب إلا وذاقوه، ولم يبق شكل من أشكال الإهانة والتحقير إلاوشاهدوه، ومنهم من أُخذ من أهله إلى التحقيق ولم يعُد إليهم.. بل كثيرون كانوا يودّعون أهلهم صباحاً بلا أمل بالعودة.. هؤلاء جميعاً كابدوا ما كابدوا من أجل استمرارية الكفاح.. وفي فترة قصيرة جداً إذا بالرحمة الإلهية الواسعة تسعف أنات ثلة من الناس، وتثمر تلك الجهود المضنية الخالصة الطاهرة ثماراً يانعة نتفيأ بظلال أغصانها بفضل الله..

ألا لا يحق لأحد كائناً مَن كان أن يهدر هذه الثروة المقدسة؟ فالمؤمنون بجدوى هذه الخدمة التي بلغت مستوى معيناً، سيتولونها وينصرونها بنفس الأحاسيس والمشاعر التي عجنت بآهات وحسرات المكابدين.

لقد ذكرنا أن هذا الأمر أمر إيماني، فمن ينصر الإيمان عليه أن يعزم عزيمة جادة على إدامة حياة الإيمان، وليكن عزمه -في الأقل- كعزمه على إدارة بيته وأهله، أي يدافع عن دعوته بمثل ما يدافع عنهم، وبخلاف هذا لا ينجو من عاقبة بني إسرائيل.

والمبلّغ والمرشد مترقّب دائماً لمواجهة المصاعب والمتاعب، ويلقّن نفسه بهذا باستمرار، ويعتقد يقيناً أنه لا يفلح ما لم يصبه ما أصاب الذين قبله في دعوتهم؛ أي يبتغي العزيمة دائماً ويتهيأ لتحمل المشقة، وإن قوبل باليسر يشكر ربه الذي أنعم عليه بهذا ويستمر في دعوته.

المؤمن مخلص صادق، أي يفعل ما يقول، أو لا يقول إلاّ ما فعله، وخلافه هو الكاذب والمنافق كما يصفه القرآن الكريم؛ إن حياة من يتكلم عن الدين والإيمان والقرآن ويشرح الإسلام كلما سنحت الفرصة، لا بد أن تكون وفق ما يبلّغه، إذ لا مكان لإثم في حياته، أو يعدّ الإثم منبع قلق واضطراب له. ولوارتكب ذنباً يشعر بعذابه ووخزاته الأليمة في أعماقه طوال حياته، فلا يستقر ذنب طويلاً في روحه. إن المؤمن لا ينظر نظرة حرام، ولا يمدّ يده إلى حرام، ولا يمشي في موضع فيه حرام. ليله كنهاره مضيء مشرق، سجادته عاشقة لسجداته في جوف الليل. لم يُسمع منه أنه قال يوماً فاتتني صلاة الفجر، وإن حدث ذلك خارج طوقه يقضى يومه بالحسرات والزفرات حتى تنعكس على سلوكه طوال ذلك اليوم، وينكفئ على نفسه من الندم.

د- التبليغ والنفاق

إن الشعور بالمراقبة والمحاسبة عامل حض دائمي للمبلّغ، فالمرشد في مراقبة مستديمة لنفسه، فيراقب مشاعره وتصوراته، ويجهد أن يستقر في نفسه ما يبلغه للآخرين أولاً و متلبسا به. وفي الوقت نفسه يتجنب ويتحرز تبليغ الآخرين أو نصحهم بمسائل لم يحاسب نفسه عليها بعدُ. وهذا التجنب لا يمنعه التبليغ بل يحض عليه ويدفعه إلى الإرشاد أكثر. إذ التخوف من أن يقع في النفاق أو أن يتشبه بالمنافقين يدفعه دائماً إلى الإخلاص.

والرسول يبين في حديث مخيف مروّع من اتخذ الإرشاد والنصح لفظاً إذ يقول: “إِنّ أَخْوَف ما أَخافُ على أمّتي كلُّ منافقٍ عليمِ اللِّسانِ”.( )

ولا يُتخيل من يسمع هذا البيان العزيز المنور ولا ترتعد فرائصه. حيث إن الإنسان مهما كانت منـزلته يشعر من حين لآخر بحاجة إلى إبلاغ شيء إلى الآخرين، فهذا الحديث الشريف وأمثاله يحول دون تردي مستوى الإرشاد والتبليغ. وعلى الرغم مما في هذه المسألة من عناصر تهديد كثيرة، فإن مصادفة المتردين الذين يجولون في وديان الضلالة مستمرة. فهذا النمط من الناس ينتجون الكلام دون انقطاع في شاشات التلفزيون وأعمدة الصحف والمجلات ويتكلمون عن الدين والإيمان والقرآن بينما جباههم ملوثة لم تر السجود، خاوية قلوبهم من الإخلاص، و مشوبة بالشؤم خالية من الصدق. فهذه الأرواح البائسة لا تعلم أن تسعاً وتسعين بالمائة من الدين ذات علاقة بالفرد نفسه، فإذا لم يراع الفرد هذه الأمور يُعد ثرثاراً مهذاراً أو مجادلاً عنيفاً.

عندما يعدد القرآن الكريم أوصاف المرشد الأساسية لا يهمل أن يذكّر بخصائص المنافقين، فإن سرد ما يبتعد عنه المرشد ويتجنبه يحرز أهمية بمثل أهمية ما يعمله المرشد ويدافع عنه. فيستعمل القرآن الكريم عند وصفه المنافقين أسلوباً يُنَفّر المؤمنين عنه.

والقرآن في هذا المجال يحشد تحشيدات هائلة حتى يذكر خطرات قلوبهم وخباياها، وهواجسهم الداخلية وخفاياها، بـل حتى نياتهم ويعرضها أمام الأنظار، بل أحياناً يعرّف قامتهم وطبائعم، فتأملوا في هذه الآية الكريمة ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(المنافقون:4). وكما نرى من الآيـة الكريمة أنهم عُرّفوا بخطوط النفاق العامة تعريفاً واضحاً بيّنا لا يقبل الشك. أي إن القرآن يعرضهم عرضاً واضحاً لا أوضح منه لا يفلت منه شيء… في أجسامهم وحركاتهم وسماتهم وكلامهم وسلوكهم وأطوارهم.. فهم قادرون على جمع جمّ غفير من الناس وجعلهم يتبعونهم كالقطعان بخطبهم الساحرة وبما أوتوا من لباقة وفصاحة، وكأنهم خشب مسندة. وبتعبير واضح إنهم أعداء. والقرآن الكريم يذكر هذا لكل عليم اللسان في الماضي والحاضر ممن يتمشدقون باسم الدين والأمة والوطن من دون أن يؤدوا شيئاً يُذكر. فالقرآن يخاطب أمثال هؤلاء بأسلوب تهديد جاد: لا تفسحوا مجالاً للباطل في صفوفكم فلا تثيروا النقائض والمعاكسات في صفوفكم.

نعم، إن هذه الأطوار التي ذكرت علامةً للنفاق، يرتعد منه ويرتعش كل من يعمل لأجل الحق وباسمه. فهي من النقائض التي يمكن أن يقع فيها كل إنسان كل آن. ولهذا فالذين يعملون في ميدان الإرشاد عليهم أن يكونوا حساسين دقيقين جداً.

هـ- التبليغ والارتباط بالله

إن أقوال وأحوال المرشـد تكون مؤثرة بقدر إخلاصه. فإن انعدم الإخلاص فلا تأثير لفخامة الكلام واحتشامه. حتى يصح أن نقول: إن الاهتداء ليس له علاقة قوية بالتبليغ والإفهام. لأنه بيد الله سـبحانه. فإن لم يرد الله الهداية لشخص لا يكون أحد وسيلة لها قط. وفي القرآن الكريم: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(القصص:56). لذا فأصل المسألة هي الارتباط بالله الذي لـه مقاليد خزائن الغيب والحاضر، والهداية خزينة عظيمة فمفتاحها أيضاً بيده بلا شك. فالألزم إذاً للمرشد والمبلّغ أن يلجأ إلى القدير الذي بيده مفاتيح كل شيء في أثناء تبليغ شيء ما إلى المخاطب بإخلاص تام.

ولقد أتى ورحل من هذه الديار ذوو عقول جبارة، أتوا ورحلوا، وعلى الرغم من مستواهم الرفيع في البيان والخطابة لم يتمكنوا من جمع بضعة أشخاص على أمر جاد، فلم يكونوا مخلصين في بعض نواحيهم، حيث كانوا يتصورون أن كل شيء من عندهم ويربطون كل نتيجة بأنفسهم. فيهم دهاة في البيان، كانوا يستطيعون أن يجعلوا ألوفاً يسيرون وراءهم ولكن لم يحصلوا على شيء لتلوثهم بالنفاق، ففيهم من يتكلم عن الصلاة وهو لا يصلي، وفيهم من يتناول شرح حسن الإسلام ولا يعيش به، لسانهم يغرد كالبلبل وقلوبهم تنبض بالحقد والكراهية والأغراض الشخصية. ومن هنا عدّ القرآن النفاق في الدرك الأسفل من النار. ولهذا فإن على كل مبلّغ مخلص أن يسجد لله خمسين مرة ويلجأ إليه من احتمال دخول النفاق فيه ويتوسل إليه ليرزقه الإخلاص.

نعم، الهداية بيد الله، فكما أنه تعالى هو الذي يعطى الإنسان قوة البدن، فهو كذلك يمنح القلب الإخلاص. لذا لا يحق للمبلغ أن يدّعي تملك أيٍّ منهما ولا يقول: أنا الذي عملت، أنا الذي فعلت!.

إن الصورة المثالية التي رسمها القرآن للمؤمن أن الإيمان وحدة القول والعمل وتكاملهما. والمحافظة على هذا التوازن سبب مهم للتأثير. وقد يتوهم أنه “لو لم يعمل المجاهد ولم يتجنب المعاصي، كفاه تفهيم الصواب والشيء الجميل” ولكن هذا الكلام من همسات الشيطان وهمهمته ولا علاقة له قط بالروح المحمدية.

لقد ظهر في أيامنا هذه عدد غفير من العقليات والأفكار الخيالية المدّعية والحداثية، فضلاً عن أنهم يملكون من قوة الذكاء الخداعي ما يظهرون الأسود أبيض يشرحون الإسلام يمنة ويسرة لكن ليس وراءهم حتى حفنة من المؤمنين المخلصين، لأنهم ليسوا مخلصين صادقين؛ يتكلمون كثيراً، ولكن لم يألفوا الإيمان والإسلام في نفوسهم مثلما ألفوا الكلام، وحياتهم الدنيوية ومعيشتهم منصبغة بباطل النظام الغربي لا بحسناته. فعندما يريدون أن يرشدوا العوام والمجتمعات يجعلوهم غرباء، وهم بدورهم يصبحون كأجانب إزاء مجتمعهم.

والسبب الأهم في هذه المفارقات هو الجهل بالإسلام، وعدم القيام بحقه بعد القراءة والدرس والتحصيل. أو بمعنى آخر إن سلوكهم هذا مخالفة ضمنية لما يدّعون النضال في سبيله، واستهانة بما يزعمون أنهم يكافحون لأجله.

انظروا إلى القرآن الكريم، كيف يستنطق سيدنا شعيباً u ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾(هود:88)، أي أنني لا أفكر فيما انتفع منه فيما أنهاكم عنه، أي عندما أقول: إن الربا حرام فلا أفكر بأخذ الربا قط، وعندما أقول الرشوة حرام فلا يرد ببالي أخذ الرشوة قط. فعندما بلّغ سيدنا شعيب u قومه كان هذا ضمان صدقه. أليس هذا هو شهادة صدق كل نبي؟ هذه الملاحظات لا يمكن أن يهملها من يتصدى لوظيفة الإرشاد.

فسيدنا شـعيب u يدعو قومه إلى الله ويرشدنا أيضاً إلى أمور في الإرشاد. فهو يذكر أسس الدعوة. والقرآن الكريم يوضح ذلك مرة أخرى ويضعها أمامنا.

والرسول الأعظم، يعمل أضعاف أضعاف ما يبلّغ ويقول. فهو أعبد الناس طراً، ومرتبة النبوة لا تفوقها مرتبة قط ولا يقاس معها شيء. فعند ما عرج به إلى السموات العلى عرج بجناح العبدية لله، أي سبقت عبديته نبوته، فأصبحت مقدمة لها. والقرآن الكريم يأمره بهذا في قول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99). وهو r يأتمر بالأمر الرباني ولا يحيد عنه قط وهكذاكان طوال حياته المباركة. فلم يغادر العبدية لحظة واحدة. فكان كلامه يستقر في الأذهان ويقرّ في الوجدان. ذلك لأنه يقول ما يفعل ويحيا به، حتى في أشد حالاته، ومثال ذلك ترويه أمنا عائشة رضي الله عنها لما سئلت: “أخْبِرينا بِأعْجَبِ شَيءٍ رَأيْتِهِ مِن رَسولِ اللهِ r. -قال: فسكتت ثم- قالَتْ: لَمّا كان لَيلَةٌ مِن الليالي قال: يا عائشةَ ذَريني أتَعبّدُ الليلةَ لِرَبّي. قلتُ: والله إني لأُحِبّ قُرْبَكَ وأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قالت: فقامَ فتطَهّر ثمّ قامَ يُصَلّي، قالت: فلَمْ يَزَلْ يَبْكي حتى بَلّ حِجْرَه قالت: ثم بَكى فَلَم يزل يَبْكي حتى بلّ لحيتَه، قالت: ثم بَكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرضَ. فجاء بلالٌ يؤذنه بالصلاة”.( )

فهذا النبي العظيم والرسول الكريم بلا شك خطيب يدعو إلى الله، وأعظم جانب من جوانبه الجليلة كلها جانب عبوديته لله التي لا تجارى قط، فقد كان يرغب أن يعبد ربه في أيامه الأخيرة المليئة بالآلام والمرض كما ابتدأها في أول يوم وأدامها إلى ذلك اليوم. علماً أن الجلوس والقيام كان عسيراً عليه. ولقد تحمل من الآلام والمصاعب طوال حياته ما لا يتحمل غيره يوماً من أيامه.. من زوجاته الطاهرات ومن أولاده.. من أمته لأمورهم الدنيوية والأخروية، حتى وهنت قواه الجسدية.. وعلى الرغم من كل هذا لم يفتر حتى عن النوافل التي ابتدأ بها. وهذه الصلوات كانت طويلة إلى درجة كانت ركعة واحدة من بعضها قد تستغرق ساعات وساعات، فما كان يستطيع أن يؤديها قائماً فيصليها قاعداً دون أن يتركها قط.( ) يا له من جدّ في الأمور كلها. ويا له من وقار، ويا له من إخلاص ومن وفاء بالعهد.

فقد كان الرائد القدوة في أخذ الأمور بجد ووفاء حتى أتاه “اليقين”. أي الموت، إلى الحشر، إلى الأبد..

وجانب مهم آخر من جوانب الإرشـاد هو ربطه بالقرب الإلهي، والرسول r أفضل من يمثل هذا الجانب. ذلك إن لم يكن هذا الإحساس بالقرب الإلهي يعش الإنسان في فراغ، فيبقى مع أذواقه وحظوظه، فتأخذ به إلى مزالق خطرة.

فلقد كان الرسول يؤدي وظيفة الإرشاد على أفضل وجه، وهو في قربه إلى الله دون تقصير حتى كان كثيراً ما يؤدي الصلاة والمؤتمّون يتصورون أنها لا تنتهى. وهكذا كان تضرعه ودعاؤه، وكأنّ يديه الشريفتين معلقتان بالسماء لا تريدان النـزول بعد رفعهما للدعاء والتضرع.

وذات مرة وافق بأن ابن مسعود كان عند رسول الله واقتدى به في إحدى صلواته النافلة فأراد أن يغتنم هذه البركة.. ولنستمع إليه مباشرة؛ يقول: “صلّيتُ مع النّبيّ ليلة فلم يزل قائما حتّى همَمتُ بأمرِ سَوْءٍ قلنا: وَمَا هَمَمتَ؟ قال: همَمتُ أن أقعدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ”.( )

وهكذا فإنه يزاول العبودية أكثر من أي أحد بكثير ثم يتكلم عنها للناس. فقد كان سبّاقاً في هذا الأمر إلى حدّ أن ابن مسعود -وهو من الرعيل الأول من الصحابة الكرام- لم يستطع أن يتحمل ركعتين من صلواته.

وكان كالشمس تميل إلى الأفول، فوضع رأسه على ركبة أمنا عائشة وهو في أيامه الأخيرة، وسدد نظره إلى الملأ الأعلى. كان تعباً جداً ومهموماً بالآخرة، حتى كان يغمى عليه أحياناً، تصف حالته هذه أمنا عائشة فتقول: “ثَقُل النبيّ r، فقال: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في الْمِخضَب. قالت: ففعلنا فاغتَسَل فذهب لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عليه، ثُمّ أَفَاقَ. فقال r: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضَعُوا لي ماء في المخضب. قالت: فقعد فَاغتَسل ثُم ذهب لِيَنُوءَ فَأُغْمي عليه ثُمّ أفاق. فقال: أَصَلَّى النّاس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله فقال: ضَعوا لي ماءً في الْمِخْضَبِ فقعد فاغتَسل ثُم ذهب لِيَنُوء فأُغمي عليه ثُمّ أفاق. فقال: أَصَلَّى النّاس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله”.( )

وهكذا أمضى حياته بقوله: الصلاة… الصلاة… ولقي ربه وهو يردد.. الصلاة.. الصلاة. كان يفكر دائماً بالصلاة ويحيا بها بشعور كامل. وهكذا كان قدوة حسنة وأسوة كاملة، في جميع جوانبه… كان إنساناً كاملاً حقاً، وسيداً مطاعاً، ورئيس دولة عادلا صابراً.

ومن الخصائص الجديرة بالاهتمام لمن يتصدى لوظيفة الإرشاد هو: أن لايغيب عنه الحياة المتواضعة للرسول الأعظم، وكونه مع الصحب الكرام في كل شأن من شؤونه.

فإن اقتضى بناء مسجد فهو أول من يحمل اللبنات معهم، أو إن كان الأمر يقتضي حفر خندق تَرَهُ حاملاً للفأس يعاون أصحابه في كسر الصخور.( )

نعم، إنه كان كأحدٍ من الناس. ويحيا بهذا الكلام عملياً. وإذا دعا الناس إلى الزهد في الدنيا فهو أسبقهم في الزهد، حتى إنه ما كان يوقد في بيته نار حتى للحساء شهراً تلو الآخر. وما كان يجد في بيته ما يستريح عليه من فراش.( )

كان وَقَّافاً عند الحرام، فقد انتفض مرة من مكانه عندما شاهد أن الحسن قد وضع تمرة من الصدقة في فمه، وأسرع في إخراجها من فمه.( ) علماً أن الحسن في ذلك الوقت كان ابن خمس أو ست سنوات. إلاّ أن الصدقة حرام على الرسول ومن يأتي من نسله.

في ليلة من الليالي وجد “تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها فلم ينم تلك الليلة. فقال بعض نسائه: يا رسول الله أَرِقْتَ البارحة. قال: إنّي وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتُها وكَان عندنا تَمْر من تمر الصّدقة فخَشِيتُ أن تكون منه”( ).. والحال أن تلك التمرة كان من ماله الخاص، لأنه كان يضع تمر الصدقة في موضع مخصص.

فهذا مثال للحساسية والدقة في تجنب الحرام، فلا بد أن يتصف به المؤمن الكامل والمرشد الكامل.

و- التبليغ والدعاء

بعد كل ما ذكرناه سابقاً فللرسول r جانب الدعاء أيضاً. فلا نغادر هذا الفصل دون الكلام حوله. نعم إنه r يوصى أصحابه الكرام بل أمته قاطبة أن يتكاملوا بالدعاء وينبهُهم بآيات كريمة أمثال: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾(الفرقان:77) فكان في دعاء دائم، ففي نومه ويقظته، وفي مأكله ومشربه، وفي ملبسه ونـزعه الثياب، بل حتى دخوله الخلاء والوضوء.. كثير الدعاء إلى حد لا يجاريه أحد في كثرة الدعاء في الدنيا كلها. نعم لا أحد غيره يذكر الله في كل خطوة يخطوها ويلتجئ إليه في كل شأن من شؤونه ويبصر في كل شيء رضاه تعالى.

فهذه الحياة المليئة بالعبر والطافحة بالعظات لفتت أنظار العالم الإسلامي أجمع، وبجميع مستوياته فهو يتابع باهتمام بالغ وبارتباط وثيق منذ أربعة عشر عصراً. فلم يحظ أحد غيره على وجه الأرض بهذه العلاقة القوية.

هذه الحياة المهيبة كأنها تصور جميعها بالأفلام، بدءاً من مأكله ومشربه ومن ملبسة إلى قيامه ومن جلوسه ومن كلامه إلى أسلوبه في الخطاب ومن مواقفه السياسية إلى عقده المعاهدات بين الدول.. هذه الحياة العظيمة قيدت في ذاكرة الجماهير وضمن الشعور الاجتماعي حتى أصبحت صمام أمان للمجتمعات المؤمنة. فليس في هذه الحياة فراغ أو جزء مبتوت الصلة بالله قط. فكل طور من أطواره وكل حال من أحواله مضى مرتبطاً بالله سبحانه وفي عبادة وطاعة لله تعالى حتى في مأكله ومشربه ومنامه ويقظته.. ولأجل هذا انطبعت جميع أحاديثه وأقواله وأطواره وأحواله في حياة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وإن الدقة الشديدة لدى الصحابة الكرام في إدامة الحياة الدينية نابعة من هذه الدقة الشديدة التي شاهدوها لدى الرسول الكريم.

حتى أنه عندما نـزلت الآية الكريمة ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾(آل عمران:102) انقطع الصحابة الكرام عن الأكل والشرب، إذ كيف كان يمكن التقوى من الله حق تقاته بغير هذا. زيادة على ذلك ﴿وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ التي تعقب الآية تشير إلى أن الموت مسلماً عسير إن لم يكن على تقوى من الله حق تقاته. فاشتد على الصحابة العمل فقاموا في بيوتهم منقطعين للعبادة والصلاة حتى تورمت أقدامهم وتقرحت جباههم ولم يغادروها إلاً لصلاة الجماعة في المسجد. وبعد مرور بضع عشرة يوماً إذا هم هزال ضعاف حتى أشرفوا على الموت. والرسول على علم بهذا الوضع، ولكن ما كان يعلم السر في هذا التحول الآني الذي حصل فيهم، وهم بدورهم لم يبوحوا بما تكن صدورهم خشية مخالفة أمره تعالى. وبعد ذلك نـزلت الآية الكريمة: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(التغابن:16) فتنفس الصحابة الكرام الصعداء ووجدوا شيئاً من الراحة.( )

نعم هكذا كان الصحابة الكرام دقيقين إلى هذا الحد أمام الآيات الكريمة، وكانوا لا يجاوزونها حتى يحيوها حياة حقيقية. ذلك لأن رائدهم كان على هذا الأمر، وفي الحقيقة دامت هذه الحالة وبهذا العمق بضعة عصور أخرى.

وهنا أمر لا بد أن يفهم جيداً: وهو أنه لا تعدّ وظيفة التبليغ قد أعطيت حقها إلاّ إذا أُخذ طرز فهم الإسلام والعيش به بنظر الاعتبار. أي يصبح الإسلام حياة معيشة بأصغر تفرعاته كما هو لدى الصحابة الكرام بكل دقة وأمان.

نعم إن وظيفة التبليغ تحوز خصوصية معينة، فالأفضل أن تؤخذ موضوعاً مستقلاً. إذ لا تفهم إلاّ ضمن الحياة ومعها في معايشة تامة، ولا تبنى على الافتراضات والتصورات الخيالية. هذا وإن مرشدين نورانيين يرشدوننا بحياتهم المعيشة منذ أربعة عشر قرناً. فكانت حياتهم كلها وجميع أطوارهم على هذا المنوال. فنالوا التوفيق من الرب الجليل لما تمتعوا به من صدق وإخلاص. ونحن إن كنا نريد الفلاح مثلهم فليس أمامنا سبيل إلاّ اتباع أثرهم ومتابعتهم في حياتهم المعيشة.

فهذا سيدنا عمر، وقد أصيب بطعنة وهو قائم يصلي، فغشي عليه، وعجز عن الأكل والشرب، ولما سأله الصحابي الذي كان يعاونه في أموره: ألا تأكل شيئاً، أومأ بعينه: كلا. بمعنى ما كان ليستطيع أن يفتح فمه ليتكلم. ولكن ما إن قرب وقت الصلاة وقرّب الصحابي فمه إلى أذن سيدنا عمر وهمس: أن حان وقت الصلاة حتى اعتدل عمر في مجلسه وقال: صلاتي.. صلاتي.. نعم هكذا شاهد من رسول الله r.

نعم إن ذلك الرجل العظيم لفظ أنفاسه الأخيرة بقوله: الصلاة الصلاة بعد أن طُعن في الصلاة.( ) ومثال آخر من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها “أنّها ذَكَرت النّار فَبَكت. فقال رسول الله r: مَا يُبكيكِ؟ قالت: ذكرتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ”.( ) لماذا؟ لأنها رأت الرسول r هكذا كل ليلة وعرفته هكذا. فلقد ربّاها الرسول الكريم وعجنها بالتبليغ العملي.

إن الصحابة الكرام لا يظهرون الدقة والحساسية في تبليغ الصلاة فحسب، بل في سائر الأركان الإيمانية والدينية أيضاً كما يظهرونها في الصلاة، لأنهم تعهّدوا أمر التبليغ من الرسول الكريم. ولكي يكون تبليغنا ذا أثر لا بد أن نعايش الحياة الدينية كما كانوا يعايشونها.

ومن جهة أخرى يجب ألاّ تسوقنا تبعات العمل في التبليغ والإرشاد وتكاليفهما إلى التراخي في الأعمال الأخرى قطعاً، بل يجب أن يحضنا حضاً إلى تطبيق ما نقول وتنفيذه في حياتنا بشوق أعمق مما لدى المخاطبين لنكون موثقين معتمدين. إذ الأطوار والأحوال التي لا تتطابق مع الأقوال تعنى مخادعة وهدماً لاعتبار الإنسان.

انظروا إلى سـيد المرسـلين r هل أظهر إهمالاً قط حتى في أصغر شيء في الحياة الدينية رغم كثـرة الأعمال التي تنتظره؟ فلقد أسس في فترة قصيرة خلال ثلاث وعشرين سـنة دولة عظيمة جليلة. وكان ذا اهتمام بكل مشاكل أفراد أمته وذا علاقة بهم. ورغم أن الأعمال التي تحيط بـه تسع الدنيـا لم ينس أفراد عائلته، ولم يتوان في أي عمل كان من الأعمال، حتى كان الله سبحانه يطلب منه كثرة الاستغفار والدعاء في انتصاره وظفره في الفتوحات وكان لا يتحرك إلاّ بما كان يأمره ربـه.( )

وكذا سيدنا أبو بكر الصديق t لم يترك صلاة التهجد مع أنه كان في جهاد شاق مع المرتدين، وفي قلق بال دائم ليل نهار ولم يتوان عن تلاوة القرآن باكياً.( ) وسيدنا عمر t الذي أركع دولتين عظيمتين، هما الفرس والروم، لم يتوقف لحظة عن مجاهدة نفسه.( )

وسيدنا عثمان t عندما أحاطت به الفتن كان صائماً تطوعاً لله ويتلو القرآن دون ارتواء، واستشهد على هذه الحالة، وقطرات الدم التي سالت من جبهته ختمت ختم الأبدية على صفحات المصحف المفتوح أمامه. حتى إن الآية التي نـزلت عليها القطرات ذات عبرة عظيمة وهي: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُم اللهُ وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ﴾(البقرة:137).( )

وسيدنا علي كان الحيدر الكرار أي الأسد الهصور في سوح الحرب، ومع هذا كانت تتجافى جنوبه عن المضاجع داعياً ربه وساجداً له، وكان يصفرّ وجهه عند سماعه الأذان ويرتعش كمن به حمّى.

فهؤلاء جميعاً يؤدون وظيفة الإرشاد على أفضل وجه.( ) فلا بد لمن يؤدي وظيفة الإرشاد والتبليغ أن يكون مخلصاً في إجراء قوله عملاً، مهما كان عمره وأيا كانت وظيفته. فكما يمكن أن يكون هذا المبلغ شيخاً أو إماماً في مسجد أو واعظاً فيه أو معلماً في مدرسة أو أستاذاً جامعياً، يمكن أن يكون كذلك عاملاً في معمل أو طالباً في مدرسة، فالكل لا بد أن ينفّذ ما يقوله حسب ظروفه وموقعه ويؤدي ما عليه دون نقصان أو قصور. ومهما كان الموضوع يحرز أهمية في أثناء الإرشاد والتبليغ فإن إخلاص المبلّغ نفسه بنفس الأهمية. والتي يشير إشارة مهمة إلى إخلاص المرشد هو شعوره بما يقول في أغوار وجدانه ويعيش بـه بأكمل وجه. فالتبليغ غير المقارن بالإخلاص والعمل لا تأثير له أو قليل التأثير مهما أحرز من نجاح. ومن جهة أخرى فإن هذا العمل (التبليغ) له وجهه الآخر المتعلق بالآخرة، وهو عذاب الله تعالى. يقول الرسول r موضحاً لوحة من الآخرة على الصورة الآتية:

“مررتُ ليلةَ أُسري بي على قوم تُقرض شِفاههم بِمَقَارِيضَ من نار -قال- قلت: مَن هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدّنيا كانوا يأمرون النّاس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أَفَلا يعقلون”.( )

نعم، اللوحة ماثلة أمامنا. وهذا هو موقف الذيـن نسوا أنفسهم ولا يعملون بما يقولونه للنـاس. فالوقت الحاضر بحاجة الى الذيـن يفعلون بما يقولون وليس إلى المجادلين والمتحذلقين. فهؤلاء يمكنهم ان يحلوا العقد المستعصية في أفق نجاتنا وخلاصنا وليس غيرهم. فالذين حملوا أسفاراً، أو يولدون الكلام ليل نهار صفر اليدين أمام مهمة نجاة الأمة. فعندما انهارت الدولة العثمانية كانت خزانتها مليئة بمئات الألوف من الكتب ولكن هذه الكتب لم تتمكن أن تحول دون سقوط دولة عظيمة. فوجود تلك الكتب في رفوف المكتبات، والمعلومات المخزونة المصففة في حافظة الإنسان لا فرق بينها من حيث الكيفية. فالأصل هو العمل بما علم. فقد قال الرسول r سيد الكائنات في حديث شريف هذا المعنى كالآتي: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي ثلاثٌ: زَلَّةُ عالمٍ، وجِدالُ منافق بالقرآن، ودنيا تُفتح عليكم».( )

نعم إذا ما نافق العالم وخادَع وتحذلق المنافقُ، فقد حقت نهاية هذه الأمة.

فكل من كان في موضع المرشد أو المبلغ لا بد أن ينتبه بدقة إلى هذه النقطة. إذ كثيراً ما نغفل عنها، ونقطة ضعفنا في وظيفة الإرشاد، سواء أفراداً أو مؤسسات، هو هذا مع الأسف. ولنتذكر هذا عندما نفكر في معاملة الله سبحانه معنا.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts