Reader Mode

إن الذين يرومون توحيد المذاهب لم يفقهوا هذه الناحية الدقيقة في الفطرة الإنسانية، ولم يُدركوا الطبيعة الإنسانية، وتناسَوا الاستعدادات البشرية الفطريّة، فإن بدأت القابليات المختلفة التي خلقها الله بالعمل والظهور وفقًا لمقتضى الحكم الإلهية – موفّيةً مهامَها بحقٍّ- فلا بدّ من ظهور مذاهب ومشارِبَ مختلفة. لذا فقد كان لا بدّ لهذه القابليات المختلفة أن تُجَسِّدَ الفقه على شكل مذاهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والأوزاعي والثوري والزهري… إلــخ من المذاهب، وكان لا بدّ لها من الظهور في الطرق الصوفية التي تخاطبُ قلبَ الإنسان ومشاعره ووجدانه، وتسعى لخدمة الشريعة الغرّاء وخدمة الدين الإسلامي المبين، اعتبارًا من عهد النبوة إلى يومنا هذا مستهدفةً توسعة الروح والقلب.

من الممكن دائمًا الاتحاد في الهدف والغاية مع اختلاف الطرق والمسالك.

مشارب متنوعة

كان سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم رحِمهما الله من أوائل الصوفية، ثم جاء أبو يزيد البِسطامي فجنَيد البغدادي، ثم الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني ذلك العملاق الذي أحبّه أهلُ الحقّ كافة، ثم الشيخ شاه النَّقشَبند؛ كلُّ واحد من هؤلاء كان يمثّل مَشْربًا مختلفًا ومزاجًا مختلفًا، ولكنهم كانوا جميعًا كأضواء ودَرجات مختلفة من اللون نفسه، وحاولوا جميعًا إحياء الحقيقة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

الذين يرومون توحيد المذاهب لم يفقهوا هذه الناحية الدقيقة في الفطرة الإنسانية، ولم يُدركوا الطبيعة الإنسانية، وتناسَوا الاستعدادات البشرية الفطريّة.

إن وضعتُم طريقة محيي الدين بن عربي بجانب طريقة الإمام أحمد الفاروق السرهندي الملقَّب بـ”الإمام الرباني”لَرأيتم فَرقًا واضحًا بينهما؛ فالوَليّ الكبير الإمام الرباني يُعَدُّ ممثّلًا لـمَسلك الصحابة وطريقهم وهو قطب مذهب “الفرق”[1]، وهو باتفاق الجميع مِن أفضل مَن فهم الحقيقة الأحمدية، وأفضلِ مَن كتب عن الظاهر والباطن للشريعة الأحمدية وأفضل شارحٍ للوحدة والتناسب الموجود بينهما، ولا نزال نحسّ في قلوبنا بنور الضياء الذي نشره قبل أربعمائة سنة.

إنّ المشارب والمذاهب المتعدّدة باقيةٌ ما بقي الليل والنهار ولن يستطيع أحد الحَيلولة دون هذا، ولكن من الممكن دائمًا الاتحاد في الهدف والغاية مع اختلاف الطرق والمسالك.

ولقد عارضَ هذا العملاقُ محييَ الدين بن عربي في مواضع عديدة فكان دائمًا ما يوجه إلى المنهج النبوي الصحيح وطريق الصحابة الكرام قائلًا: ليست “الفتوحات المكيّة”، بل “الفتوحات المدنيّة”، وهو طريق أهل السنة والجماعة التي تمثّل بدورها الحقيقة الأحمدية، والحقيقة أن هذه المسألة مسألةُ مشرَبٍ وذوق، صحيح أن ابن عربي قال بـ”وحدة الوجود”إلّا أنه بدلًا من معنى “لا وجود لأيّ موجودٍ سوى الله”كان يعني “لا وجودَ حقيقيّ وقائم بذاته سوى الله”، أي كان يُومِئ بشكلٍ ما إلى “وحدةِ الشهود”.

صحيح أن ابن عربي قال بـ”وحدة الوجود”إلّا أنه بدلًا من معنى “لا وجود لأيّ موجودٍ سوى الله”كان يعني “لا وجودَ حقيقيّ وقائم بذاته سوى الله”، أي كان يُومِئ بشكلٍ ما إلى “وحدةِ الشهود”.

جملة القول: إنّ المشارب والمذاهب المتعدّدة باقيةٌ ما بقي الليل والنهار ولن يستطيع أحد الحَيلولة دون هذا، ولكن من الممكن دائمًا الاتحاد في الهدف والغاية مع اختلاف الطرق والمسالك، أي يمكن أن تـخـتلف الألسن، ولكن الحقيقة التي يتمّ شرحها بِشَتّى اللغات حقيقة واحدة، وكما قال الشاعر:

                  “عباراتُنا شتَّى وحُسْنك واحد  وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشيرُ”

————————————————————

[1] الفَرقُ: مَا نُسب إليك والجَمعُ: مَا سُلب عَنْك، ومعناه أَنَّ مَا يَكُون كسبًا للعبد من إقامة العبودية وَمَا يليق بأحوال البشرية فَهُوَ فرقٌ، وَمَا يَكُون من قِبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فَهُوَ جمع، وهَذَا أدنى أحوالهم فِي الجمع والفرق، لأنه من شهود الأفعال فمن أشهده الحق سبحانه أفعاله من طاعاته ومخالفته فَهُوَ عَبْدٌ بوصف “التفرقة”، ومن أشهده الحق سبحانه مَا يوليه من أفعال نَفْسه سبحانه فَهُوَ عَبْدٌ يشاهد “الجمع”، فإثبات الخلق من بَاب التفرقة وإثبات الحق من نعت الجمع، ولا بدّ للعبد من الجمع والفرق، فَإِن من لا تفرقة لَهُ لا عبودية لَهُ، ومن لا جمع لَهُ لا معرفة لَهُ، فقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إشارة إِلَى الفرق، وقوله ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إشارة إِلَى الجمع، انظر: القشيري: الرسالة القشيرية، ص 166. (المترجم)

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ104-106.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.