Reader Mode

سؤال: ذكرتم فيما مضى: “أن الحق الأول شيء، والحق المكتسب بالتمثيل شيء آخر، فالحق إن لم يُمَثّل حسب مقاييس قيَمه الذاتية يمكن أن يُسْتَرَدَّ، ويُسَلَّم إلى من يكونون نسبيًّا أسبق وأفضل في استحقاقهم لهذا الحق، إلى أن ينشأ الممثّلون الحقيقيّون”، فما الرسائل التي تنطوي عليها هذه العبارة؟

الجواب: الأصلُ أن الحقوق كلها لله تعالى؛ فمن أسمائه “الحق”، وليس للإنسان أية حقوق ذاتية، وتجلّيًا من تجليات عظمته سبحانه وتعالى استودع بعضَ الحقوق الناسَ، وزودهم بأنواع مختلفة من النعم؛ إذ يأتي الإنسان إلى الدنيا وهو يمتلك مجموعة من الحقوق والامتيازات دون أي جهد أو تعب منه.. وهذه يمكن تسميتها بـــ”الحقوق الموهوبة”؛ لأن الإنسان لا يكتسبها باستخدام إرادته، ويمكن النظر من هذا المنظور إلى العديد من الحقوق والامتيازات؛ بدءًا من خلق الإنسان بشرًا إلى ولادته في بلدة مسلمة، ومن تزوده بمهارات وقدرات عالية إلى نشأته في بيئة مناسبة..

وعلى الإنسان أن يسعى إلى أن يكون أهلًا لهذه الحقوق التي منحها الله تعالى له على سبيل اللطف الجبري، وذلك بأن يستوفي إرادته حقها ويعمل على تنمية مواهبه وقدراته حتى النهاية، ومما لا شك فيه أن كل نبي من الأنبياء عليهم السلام بمنزلة مرشدٍ وهادٍ لنا في هذا الصدد.

لو قلنا لا يوجد ممثلون حقيقيون لدعوة الحق في يومنا هذا لأسأنا الظن بالجميع، لكن بإمكان كل شخص أن ينظر إلى نفسه بهذه الطريقة، ويقول: “إنني في أحسن الأحوال مجرد مؤتَمَنٍ ومستودَع، ولست جديرًا لتمثيل هذه الأعمال حقَّ التمثيل”.

وللتعبير عن هذه الحقيقة فكما يمكن القول إن الله تعالى منح عباده هذه الحقوق دون مقابل، كذلك أنعم عليهم بها بناءً على علمه الأزلي بالنشاط والجهد الذي سيحقّقونه طوال حياتهم، فمثلًا إنه لنعمة عظمى وفضيلة كبرى أن يتشرّف أي إنسان بالنبوة، فهو سبحانه يشرّف بهذه النعمة من شاء من عباده، وقد يمكن القول أيضًا: إن الله جل جلاله كرَّم بعض عبيده بمثل هذه الرتبة العالية؛ لعلمه الأزليّ بما سيبذلونه من جهد وسعي طوال حياتهم بدءًا من طفولتهم.

ومن ينظر إلى حياة مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم يوقن تمامًا أنه صلى الله عليه وسلم كان أهلًا للنِّعَم التي يمتلكها، مثل نعمة العفة والعصمة والفطنة، فضلًا عن النبوة! فلقد استطاع صلوات ربي وسلامه عليه من خلال استخدام إرادته إلى أقصى حد، أن يستفيد بشكل مثمِرٍ ونافع للغاية من الحقوق الأولى التي مُنِحت له، وظل طوال حياته السنية يتخذ القرارات الصائبة، ويختار الاختيارات الصحيحة المناسبة بحيث لا يمكن لأيِّ عقل سليم أن يعارضها أو يعترض عليها؛ فرغم أنه بشر يتكون من لحم ودم فإنه أنجز أشياء تتجاوز أعمال الملائكة.

إعطاء المرء موقعه حقّه

الإنسان الذي يعيش متفحصًا الحياة يرى أن ما أنعم الله تعالى عليه من حقوقٍ ونِعَمٍ منذ ولادته تستمر أيضًا في المراحل اللاحقة من حياته، فمثلًا كم شخصًا منا ارتبط بالخدمة الإيمانية والقرآنية فكرًا وتدبّرًا واستيعابًا لفلسفة الأمر؟! لقد وجد معظمنا نفسه فجأة في خضم الأمر، حدث ذلك كما لو أننا كنا نسير في الشارع مع خمسين شخصًا، وإذا ببابٍ يُفتح فيؤخذ منا ثلاثة أو خمسة إلى الداخل.. وعليه فإنه من الصعب للغاية أن يقول الإنسان في هذا الصدد: “فكرتُ وخططتُ ونفذتُ”.. لقد مرّ أذكياء كثيرون من نفس الجادة، لكنهم لم يفكروا في أن يدلفوا إلى الداخل من ذلك الباب الموارب، حتى إن بعضهم مرّ من جانب الباب، ولم يره ولم يسمع الصوت الذي يناديه.

إذا كنتم تريدون معرفة مكانتكم عند الله فعليكم أن تنظروا إلى مكانة الله ومقامه عندكم.

وهكذا فإن القضية الرئيسة تتمثل في النظر إلى هذه الحقوق والنعم الموهوبة كلها على أنها أمانة مهمّة جدًّا والسعيِ إلى إعطائها حقها والوفاء بها.. فلا ينبغي للإنسان أن ينزلق إلى كفر النعمة بتجاهل النعم التي يمتلكها، ولا أن يتردّى في الغرور والكِبر تفاخرًا وتباهيًا بها، يجب عليه بالدرجة الأولى أن يعزوَ كل هذه النعم والأفضال إلى مالكها الحقيقي، أي إلى الله تعالى، ثم يسعى لأن يكون مستحقًّا لها وجديرًا بها.

أجل، يجب علينا أن نعي ونفهم نِعَمَ الله وألطافه بالدرجة الأولى، وألا نهوي في الغرور والكبر بنسبتها إلى أنفسنا، ثم يجب علينا أن نوفِّي حق الموقع والمكانة والمرتبة التي وضعنا الله تعالى فيها، يجب علينا أن نضبط جميع مواقفنا وسلوكياتنا وفقًا للمكانة التي نحن فيها، وإن اطّلَعْنا على شيءٍ من الحقائق السامية؛ فيجب علينا أن نعتبرها نعمة مهمة جدًّا، ونهرول لتعريف جميع القلوب المحتاجة بها؛ لأن العلاج الوحيد لعدم الوقوع في دوامة الأنا هو ربطُ القلب بغاية مثالية رفيعة، وإذا كنا لا نريد الغرق أو الاختناق، فيجب علينا أن نتشبّث بمقبض قوي أو بحبل متين.

يجب علينا أن نحاول الاستفادة من جميع الحقوق والنعم والعطايا التي وهبها الله تعالى لنا على سبيل الأمانة ونعمل على رعايتها وتنميتها تمامًا مثل البذرة التي تُلقى في باطن أرض خصبة.. يجب علينا أن نقول باستمرار: “ترى ما الذي يجب عليَّ فعله حتى تُخرِج الحبة الواحدة التي بيدي سنبلتين، ويخرج من السنبلتين خمسون حبة من القمح؟”، يجب علينا أن نبحث عن طرق كي تُنْبِتَ الحبّةُ الواحدة سبعَ سنابل وفي كل سنبلة مائة حبة كما عبر القرآن الكريم[1]، وينبغي لنا أن نسعى بكل استطاعتنا إلى الاستفادة العظمى من كل المواهب والقدرات التي نمتلكها؛ بالنظر إليها بهذا المنطق وتلك الفلسفة.

إن السبيل إلى الوفاء بحقِّ الموقعِ أو الوقوف حيث ينبغي؛ يتمثل في القدرة على النظر إلى المسألة من خلال المنطق التالي: يجب على الإنسان أن يفحص بشكل متكرّرٍ المسافةَ ما بين المكان الذي يتواجد فيه والمكان الذي يجب أن يتواجد فيه، وعليه أن يتساءل دائمًا: “بما أن الله منحني تلك النعم وأعطاني فرصة العيش في مثل هذا المناخ الجميل، فما هي الأشياء التي يريدها مني؟”، وأن يؤدي شكر النعم التي يمتلكها.

إن العطية والمنحة والهبة الأولى نعمة وفضل من الله تعالى، لا دخل لنا فيها، لقد وضعنا الله عز وجل في موقف ومقام معين، غير أنه يجب علينا أن نحقق عبوديتنا لربنا سبحانه وتعالى بما سنبذله لاحقًا من نشاط وجهد وجدية، حتى الملائكة ليقولون: “ربَّاه! ما أعظمها من حكمة كانت في إدخالك هذا الشخص من ذلك الباب المفتوح!”.

إن السبيل إلى الوفاء بحقِّ الموقعِ أو الوقوف حيث ينبغي؛ يتمثل في القدرة على النظر إلى المسألة من خلال المنطق التالي: يجب على الإنسان أن يفحص بشكل متكرّرٍ المسافةَ ما بين المكان الذي يتواجد فيه والمكان الذي يجب أن يتواجد فيه.

إن سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يمثلون نماذج مهمة جدًّا بالنسبة لنا في هذا الصدد، لقد خلقهم الله في نفس العصر الذي عاش فيه نبينا صلى الله عليه وسلم، ومهّد لهم السبيل ليكونوا صحابته، فوفّوا بحق ذلك، ولقد بلغ أولئك الأشخاص الذين كانوا يئدون بناتهم في ظلمات الجاهلية، ويعبدون الأصنام التي صنعوها بأيديهم، ويتخبطون في غياهب أنواع شتى من الوحشية، ولا يعترفون بحقوق النساء؛ بلغوا مستوى ومنزلة مكنتهم من أن يحكموا العالم كمعجزة من معجزات القرآن ويثقفوا عقل البشرية ويصقلوه، أي إنهم أعطوا المكانة والمرتبة التي منحهم الله تعالى إياها حقها، وخلال وقت قصير أعطوا الإنسانية درسًا في الحضارة، وملؤوا البسيطة علمًا وعدلًا وإنصافًا ورحمةً.

سمات حملة الدعوة

إن لم تُستغَلّ الألطاف التي منحها الله للناس كحق أولي كما ينبغي فإن الله تعالى يسلبها ممن ليسوا أهلًا لها، ويُسلّمها إلى من هم أكثر أهلية لها؛ إذ يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/54).

وهنا يصرح الله تعالى بأنه سيأتي بطائفة أخرى تحل محل من ارتدوا عن دينه، أو من لم يقوموا بواجباتهم على النحو الأمثل، وتاريخ الإسلام مليء بأمثلة من هؤلاء، فمثلًا عندما بدأ الأمويون في الاضطهاد والوحشية وسفك الدماء استبدلهم الله بالعباسيين، وعندما بدأ العباسيون يضطربون ويضعفون استقر الأمر للسلاجقة، فوقعت على عاتقهم مقاومة الحملات الصليبية والمغولية، وعندما صاروا هم أيضًا عاجزين عن أداء هذه المهمة العظيمة استبدلهم الله هذه المرة بالعثمانيين..

أي إنه حين تعجز طائفة عن بلوغ المستوى الذي يريده الله جل وعلا، ولا تستطيع أداء حقِّ مكانتها، وتبدأ في التراجع بحيث لا تقف حيث يجب فإن الله تعالى يسلب منهم هذا الأمر، ويكله إلى غيرهم، فيجعلهم يمثلون دعوته.

حسنًا، ماذا يجب أن تكون صفات مَنْ يتمسكون بدين الله وينشرونه في أرجاء العالم؟

أولًا: أن يحبّهم الله ويحبونه، والحقيقة أن هذا الحبَّ متبادَلٌ، فإذا اشتاقت نفوسكم حنينًا إلى الله عندما تذكرونه فلكم أن تعلموا أن الله يحبكم، فإذا كنتم تريدون معرفة مكانتكم عند الله فعليكم أن تنظروا إلى مكانة الله ومقامه عندكم، فبقدر علاقتكم بالله، تكون علاقة الله بكم، ولذا يرد ذكر هذين النوعين من الحب الواحد تلو الآخر.

ثانيًا: يذكر القرآن الكريم أن هذه الطائفة التي تبدأ حركة إنشاء جديدة وتسعى إلى إحداث انبعاث عام؛ تخفض أجنحة التواضع والذل من الرحمة للمؤمنين، أي إنهم يرون أنفسهم دون الجميع وأقل منهم.. وعلى حد قول سيدنا عليٍّ رضي الله عنه يعيشون بين الناس كواحدٍ من الناس..

ثالثًا: إنهم يتخذون موقفًا صارمًا للغاية من الصفات الكفرية، وبعبارة أخرى: إنهم يحاولون إزالة سمات الكفر كي يعيش الجميع حياة إنسانية، ويفكروا تفكيرًا سليمًا ويتخذوا القرارات بشكل صحيح، ويبذلون قصارى جهدهم حتى يتخلص الناس من دوامة الكفر، أي إنهم يحاولون تمكين القلوب من الاتصال بالله تعالى من جديد عبر إزالة ما بين الناس وما بين الله من حواجز.

رابعًا: يناضل هؤلاء باستمرارٍ في الطريق الحق الذي يؤمنون به، ويسعون لتخليص البشر وتطهيرهم من الصفات السلبية، ولإيصالهم إلى الله عز وجل..

 خامسًا: إنهم لا يخافون ولا يذعرون ولا يعيشون جنون العظمة أمام حملات الإهانة والتحقير والأذى والافتراءات التي يتعرضون لها في هذا السبيل، فلا يستطيع كلام الناس غير اللائق ومواقفهم الفظة وسلوكياتهم العدوانية أن تُثنيهم عن الطريق الذي هم مصممون عازمون على المسير فيه، ولا شك أن كلَّ واحد من هذه الأمور فضلٌ وإحسان من الله يهبهما لمن يشاء.

من أجل القدرة على حمل الأمانة دائمًا

يستطيع أي شخص من خلال النظر إلى الأمر بعقلانية أن يزن نفسه من ناحية هذه الصفات السامية التي وضعها الله تعالى، ويمكنه أن يراجع ويفتش هل دعوة الحق قد مُثِّلت من قبل الناس الجديرين بها أم لا؟! بيد أنه ينبغي له أن يحرص على عدم إساءة الظن بأحد أثناء قيامه بذلك.

من ينظر إلى حياة مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم يوقن تمامًا أنه صلى الله عليه وسلم كان أهلًا للنِّعَم التي يمتلكها.

أما بالنسبة لمسألة أن “الحق سيظل يتنقّل بين من يكونون الأسبق والأفضل نسبيًّا في استحقاقهم لهذا الحق، إلى أن ينشأ الممثلون الحقيقيون” كما ورد في السؤال؛ فإننا لو قلنا إنه لا يوجد ممثلون حقيقيون لدعوة الحق في يومنا هذا لكنّا قد أسأنا الظن بالجميع، لكن بإمكان كل شخص أن ينظر إلى نفسه بهذه الطريقة، ويقول: “إنني في أحسن الأحوال مجرد مؤتَمَنٍ ومستودَع، ولست جديرًا لتمثيل هذه الأعمال حقَّ التمثيل”، ويمكنه التفكير على النحو التالي: “إنني أسعى لمساندة هذه الدعوة حتى لا تسقط رايتها على الأرض، ولا تُنسى القيم تمامًا، ولا نعيش تحت وصايات مختلفة”.

لكن الأمر الأهم هو أن يحاول كل مؤمن أن يكون أمينًا على الدوام، وليس مؤقتًا، وثمرة هذا ومردوده كبير لدرجة أنه لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر، فإذا كان هناك مثل هذا الهدف السامي فإن التعلق بأشياء سواه من فتور العزيمة ودناءة الهمة، يجب على الإنسان من ناحية أن يُعليَ من همته دائمًا، ويرفع من مستواه باستمرار، ويسعى إلى تحقيق جدارة تليق بذلك، ومن ناحية أخرى يجب عليه أن يتضرع ويدعو الله دائمًا: “اللهم اجعلني أمينًا صادقًا مخلصًا في الأمانة حتى ذلك اليوم الذي ستسترد فيه أمانتك!”. آمين..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: سورة البقرة: 2/261.