Reader Mode

سؤال: هناك حديث نبوي يقول: “مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي فَلَهُ أَجْرِ مِائَةُ شَهِيدٍ”([1]) فهل توضِّحون كيفيَّة تعلُّم السنَّة السنيَّة وتطبيقها حسب مقتضيات هذا العصر؟

الجواب: الكتب الموجودة بين أيدينا تناولتْ هذا الأمرَ بالتفصيل وبَيَّنَتْ كيفَ أن السنَّةَ هي الطريق الموصل إلى الحقِّ([2]). أجل لقد قامت السنة بِبيان هذا الطريق وحثَّتْ عليه، ولو اجتمع آلاف الأولياء وآلاف الأدمغة وحاولت وضعَ طريقٍ أو مبدإٍ لَما بدت هذه الطرق ولا دساتيرها إلّا كَبارقةِ ضوءٍ خافتةٍ أمام أضواءِ أصغرِ مسألةٍ من مسائل السنّة النبويّة، لذا فما زالَ المئات من المرشدين والمئات من أهل الحقيقة يُكَرِّرُون المرة تلو الأخرى وينبّهون دائمًا بأن طريقَ السنّة هو طريق الدين.

إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلينا بالخير والجمال ليعلِّمَنا معنى الحياةِ هو الذي شرحَ لنا كلَّ شيءٍ اعتبارًا من الفروض والواجبات والسنن وصولًا إلى المستحبِّ والمباح وآدابها، جاء في أحد الأحاديث القدسية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”([3]).

أي إن الله تعالى يريه الأشياء بشكلها وبوضعها الصحيح، ويوفِّقُهُ لتقييمِ الأمور تقييمًا صحيحًا، ويفتحُ له من كلِّ شيء دربًا إلى الحقيقة، فإن رأى الهداية طار إليها، وإن رأى الضلالة فرّ منها، عندما يسمع صوتًا يدعو إلى الحقِّ يستجيب له ويسمو بروحِهِ معه، وعندما يتكلم يوفِّقُهُ الله لقولِ الحقِّ، وعندما يعمل يسوقُهُ الله إلى الأعمال النافعة وإلى الخير والجمال، أي إنه يسوقُهُ على الدوام إلى الطريقِ المؤدِّي إلى الجنَّة ولا يدعه لحظةً لنفسه، ولأنه يهدفُ للحصولِ على رضا الله تعالى في كلِّ أعمالِهِ، فإن الله يُحركه على الدوام ضمن دائرة مرضاته، لذا فإن الله تعالى جعل حياة الرسول r والأشخاص المهمّين الذين جاؤوا بعده تحت مراقبتِه، وسدَّ أمامهم جميع الطرق الخارجة عن طريق مرضاته، وجعل طريقَ السنَّةِ هو الطريق الوحيد المفتوح أمامهم.

والآن لا يوجد طريقٌ غير طريق السنَّةِ يؤدِّي إلى الهدفِ بشكلٍ مضمون لا شبهةَ فيه، لذا فمن الطبيعيِّ أن يكون إحياءُ السنَّةِ عند انتشار الفسادِ، وتعبيدُ الطريق الذي يُبَيِّنُ الفرائض والواجبات والسنن، والقيام بأيِّ خدمات وجهودٍ لجعلِهِ سالكًا من جديد ومضمونًا وآمنًا حتى يوم القيامة؛ جهدًا مقدَّسًا يرفعُ أصحابَهُ إلى مرتبة الشهداء، بل هناك العديد من بين هؤلاء من يحصل على أجر عدَّةِ شهداء في كلِّ يوم من أيام عمره، أما الذين يُحاولون من بين هؤلاء إحياء أركان الإيمان فهم يكسبون ثوابًا أكثر من ثواب مائة شهيد.

أجل هناك مسائل في السنة السنيَّة مَن أحيا مسألةً واحدة منها كان له أجرُ مائة شهيد، فكما أن هناك نوعًا من الغِيبة يكون أشدُّ من قتلِ إنسان أو من الزنا بنصِّ قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: “الْغِيبَة أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا لِأَن الرجل يَزْنِي فيتوب يَتُوب الله عَلَيْهِ، وَإِن صَاحب الْغِيبَة لَا يغْفر لَهُ حَتَّى يغْفر لَهُ صَاحبهَا”[4]، وقولِه أيضًا: “الْغِيْبَة أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل”[5]، وقولِه تعالى: ﴿وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ (سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 49/12)، لأن الغيبة التي تزرع الفسادَ في المجتمع وتؤدِّي إلى الاضطراب والفوضى فيه أشد من غيبة شخص عاديّ، فهنا يكون الإثم أكبر من هذا الإثم الفرديّ؛ كذلك ففي المسائل التي دخلت فيها الأمة إلى الفساد، وتعطلت جميع أجهزة الدولاب الإسلامي، فإن القيام بإحياءِ أيِّ مسألةٍ دينيَّةٍ في مثل هذا الفساد الضاربِ جذورَه في كل مكان سَيُكْسِبُ ثوابَ مائةِ شهيدٍ بل ربما ثوابَ ألفِ شهيد.

أما إنجاز مثل هذه الأعمال في يومٍ مباركٍ وفي لحظةٍ مباركةٍ فقد يُكْسِبُ صاحبَها ثوابًا أكبر، ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/73)، نسأل اللهَ تعالى أن يجعل من نصيبنا الاستمرار في هذا الطريق بشكل دائم وأن يوفّقنا إلى الخدمة بإخلاص.

نحن سعداء ومحظوظون جدًّا، فعندما يتمُّ ذكر خدماتنا نقول: “إن الوظيفة الملقاة على عاتقنا إنما هي فضلٌ وإحسانٌ إلهيٌّ”. أجل، فقد وُظّفنا في هذا العهد الذي اختلط فيه الحابلُ بالنابلِ بوظيفةٍ مقدَّسَةٍ وعالية، وإن إحياء هذا الدين بكلِّ مؤسساته وبكلِّ كادِرِهِ وبكلِّ جماعتِهِ عملٌ لا نظيرَ ولا مثيلَ له في العالم، وهو من جانب آخر استمرارٌ لوظيفة الرسول r ومتابعة لدعوته، وإن ظهور فخر الكائنات r تنـزُّلًا منه في رؤى بعض الصالحين وزيارتَهُ لبعضِ المؤسَّسات الإيمانية والقرآنية ليست إلا من كرامات السنة السنية وخدمة هذه السنة، وليس نتيجةَ أيِّ ميزةٍ شخصيَّةٍ لأيِّ شخص.

وإن حصول الأشخاص والجماعات والمؤسسات على حصصٍ أعظم من هذا الثواب على قاعدة “الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ”([6]) ليس إلا فضلًا آخر من الله I، وهو ما يُنتظر منه ومن رحمته الواسعة الشاملة، ولكن إنْ لم يقم الذين أوصلوا الخدمة الإيمانية والقرآنية إلى هذا المستوى بالمحافظة على المستوى نفسِهِ من الإخلاصِ والحماسِ ستؤخَذُ الأمانة منهم وتودع إلى آخرين، أي سيتمُّ نبذُهم ورفضُهم، ونحن إذ نُدْرِكُ ونقدِّرُ العنايةَ الربَّانيَّةَ نعرف بأننا إن بَذَلْنَا كلَّ طاقاتِنا وصَرَفنا كلَّ جهدنا واستفدنا من اللطف والرعاية الإلهية فإننا نستطيعُ اجتيازَ الامتحان ونكونُ مظهَرًا لألطاف أخرى.

وكم نتمنى أن يستمر أصدقاؤنا حتى يأتيهم اليقين بنفس الهمّة وبنفس الحماس والوجد في خدمة القرآن والإيمان.

[1] الطبراني: المعجم الأوسط، 5/315.

[2] انظر: المكتوبات للإمام الرباني فاروق السرهندي، رقم المكتوب: 75، 94، 210، 260؛ المكتوبات لبديع الزمان سعيد النورسي، المكتوب الخامس؛ واللمعات لبديع الزمان سعيد النورسي، اللمعة الرابعة، اللمعة الحادية العشرة.

[3] صحيح البخاري، الرقاق، 38.

[4] الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 3/116.

[5] المصدر السابق: 3/116.

[6] سنن الترمذي، العلم 14؛ مسند الإمام أحمد: 37/44.

فهرس الكتاب