Reader Mode

الأمثلة كثيرة حول قيام المؤمنين بالصفح عن أفظع وأقبح ما يُمكن أن يُرتكب في حقّ أي شخص، والحقيقة أنهم استطاعوا النجاح في هذا الامتحان الصعب؛ وإن في ذلك لعبرةً لمن حملوا على عاتقهم مهمة تبليغ الحق والحقيقة. فالمناخ الدافئ لِخُلُقِ الصفح والمسامحة فيستطيع إذابة العديد من جبال الثلج، فكم من عدوٍّ قرَّرَ قتلَ الرسول صلى الله عليه وسلم غيلةً، وبفضل عفو الرسول صلى الله عليه وسلم وصفحه وُهبت له الحياة ثم دخل في الإسلام وأصبح من أصدق أتباعه وأصحابه، ألم يكن خلق العفو والسماح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي ألان قلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسلسَ قياده لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

 على دُعاتنا الحاليين النفوذ إلى القلوب، وبيان الحقائق بخلقهم الرفيع وبسماحتهم، ولا يظنّنّ أن الخشونة والغلظة تفيد في شيء، فلم تُجْدِ نفعًا لا اليوم ولا في أيّ عهد سابق.

 

خلقه العظيم كان سببًا في اهتداء المهتدين:

ألم يكن هذا الخلق الرفيع للرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح قلب خالد بن الوليد رضي الله عنه لنور الإسلام فانقشعت عنه الظلمة؟ أليست كلّ هذه فيوضاتٍ نورانيةً انبثقت من مناخ عفو وسماحة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. والحقيقة أن الله تعالى يطلب هذا من كلّ داعيةٍ وواعظٍ ومبلّغ، فمع أنه بعلمه الأزليّ يعلم أنّ فرعون لن يهتدي إلا أنه عندما أرسل إليه موسى وهارون عليهما السلام أمرهما أن يقولا له قولًا لينًا فقال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طَهَ: 20/44).

 مهما تصرّف معارضونا تجاهنا بخشونةٍ وتعصُّبٍ ورجعيّةٍ فعلينا مقابلة هذه التصرّفات بمرونةٍ وشهامةٍ تليقُ وحالَ المؤمنين، فهذا هو ما يوجبه علينا المفهوم الأخلاقي الذي يعلّمنا إيّاه القرآن الكريم ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾.

إن الدستور الذي يجب أن يضعه المؤمن نصب عينيه على المستوى الفردي هو ما قاله ربنا تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التَّغَابُنِ: 64/14). فالمؤمن الذي يتمنى ويأمل أن يتجلّى الله عليه بصفات الغفران والرحمة عليه أن يتخلّق بهما ويجعل من العفو والصفح جزءًا لا يتجزّأ عن خُلُقه، لن يخسر الإنسان الذي جعل شيمتَه العفوَ والصفحَ أبدًا في أيّ مرحلة من مراحل حياته، والذي يضع المستقبل نصبَ عينيه وهو يعيش حياته الحالية إنسانٌ قد وهبه الله تعالى موهبةً وحكمةً خاصةً به، والذين ينالون مثل هذا الفضل هم أيضًا ورثة المستقبل في هذه الدنيا.

———————-

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 253-254.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

 

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts