Reader Mode

على المبلِّغ أو المرشِد أيًّا كان مستواه أن يزوِّد قلبَه بالعلوم الدينية وعقلَهُ بالمعارف الحديثة، ويتعمق في مراقبته الداخلية بتشغيل قابلياته التي لا تعمل إلا بِكِلا الأمرين معًا، ولا بد له أيضًا أن يكون لدنِّيًّا بقدر استطاعته وفقًاً لمستواه وشخصيته، وهذا مرتبط – من ناحية- بالموضوع الذي تطرقنا إليه آنفًا، يعني لا بدّ من توسيعِ دائرة الإخلاص والصدق”.

 لا يعرف الجوهر إلا من يعلم قيمتَه! وبما أن الإخلاص والصدقَ وصفٌ نبويٌّ فلا بدّ أن يتحلّى بها كلُّ إنسان يتَّخذ من الدعوة وظيفةً وواجبًا.

ولقد رَكَّزَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من أحاديثه على الإخلاص، وبين أنه أعلى أفقٍ بالنسبة للإنسان. وعندما يتحدَّث القرآن الكريم عن الأنبياء يتحدَّثُ عنهم من خلال هذه الصفات، ويُبَيِّنُ أن الإخلاص جزءٌ لا ينفكُّ عن النبوّة. فوصفَ سيدَنا موسى عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا﴾ (مَرْيَمَ: 19/51)، معبرًا بأوجز الأساليب عن أنه، عليه السلام، ما كان يسلك سلوكًا أو يعمل عملًا إلا من أجل رضا الله تبارك وتعالى. كما تربَّع سيدنا إبراهيم عليه السلام على قِمَّةِ مفهوم الإخلاص والعمل به، فلم يتزعزع أو يساوره الشكُّ لحظةً وهو في أحلك لحظات الابتلاء. ولم لا.. فهو خليل الله، والخليلية تتطلّب هذا.

 المراقبة تعني محاسبة الإنسان لنفسه بنفسه، وهي ركيزةٌ من ركائز عملية الإرشاد والتبليغ.

 مراقبة الله، وتقواه:

 

أجل، على من يقومون بوظيفة الإرشاد والتبليغ بدلًا من الاهتمام بأمور تافهة مثل: إرغام الآخرين على قبولهم، والاعتقاد بالتأثير فيهم، وامتداحهم بكثرة أتباعهم؛ أن يحاسِبوا أنفسهم على أقوالهم وأفعالهم هل هي تتوافق مع رضا الله سبحانه وتعالى أم لا.

وعلى الإنسان أن يُراقب نفسَه متسائلًا: لماذا أفعل ما أفعله؟ فإنْ دَاخلَ هذه المسألةَ شيءٌ من هوى النفس والأنانية فعلى الإنسان أن يتوقّف على الفور. ولِنَقُلْ مثلًا إنك تعمل واعظًا، تعظ الناس، ونلت بفضل الله وكرمه مقامَ البسط حتى إن الكلمات تنساب منك تلقائيًّا وكأنك تحرك شفتيك فقط، فعليك إذًا في هذه اللحظة أن تنتبه إلى من أنطق لسانك، وتُفكِّر في صاحب هذا الفضل، وتُنكّسَ رأسك إلى الأرض إذعانًا له، فإن حدث ودَاخلَك شيءٌ من هوى النفس، واعتقدتَ أنت أيضًا بهذا؛ فلا بد إذًا أن تقطع حديثك وتنزل عن المنبر، فحسن الكلام أحيانًا ما يكون فتنة، وعلى الإنسان أن يستعيذ بالله دائمًا من الفتنة، كم من خطباء جاؤوا إلى الدنيا وساقوا الناس وراءهم وربما هم الآن- باستثناء المخلصين بالطبع- يحاسَبُون على كلامهم في الآخرة.

 علينا أن نبتهلَ إلى الحقّ تبارك وتعالى أن يرفع قدرنا بالصدق والإخلاص وفقًا لعجزنا وفقرنا لا لأهليَّتِنا.

أجل، إننا مضطرون إلى أن نهيّئ أنفسنا بالمراقبة الداخلية وفقًا لما ينبعث من أعماق قلوبنا وإلا تعذر علينا أن نؤثّر فيما حولنا، وعلينا أن نمحو ذاتيتنا وأن نتنازع مع أنفسنا في قرارة أنفسنا، وأن نتحرى رضا الله في هذا النزاع، وأن نسعى في سبيل رضاه سبحانه وتعالى”. ولمثل هذه الحالة الروحية مظاهر تبدو وكأنها غريبة بعض الشيء أحيانًا، فقد يهزّ الإنسان رأسه أو ينكّسها أو يئن ويكابد أو يسجد ويتلّوى، ولكن لا ريب أن الإخلاص سيصبح سلوكًا اعتياديًّا مع الوقت في كل تصرفاته، ويفعل الإنسان كل ما يفعله في غاية السهولة براحة واطمئنان من أجل الله، ويدعه من أجل الله، ويجلس ويقوم من أجل الله.

——————————————————————-

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 28-31.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts