Reader Mode

أحد الأساليب الديناميكية التي استعملها النبي ﷺ في دعوته، هو جعل طراز حياته مطابقًا تمامًا للمقام الذي يمثِّلُه. وتمثيله الحق لِما كان يقوله ويدعو إليه، كان صادقًا إلى درجة أن من يشاهده ويراه كان يؤمن بالله تعالى من غير حاجة إلى دليل آخر، حتى أن رؤيته مرة واحدة كانت كافية للإيمان بأنه رسول من عند الله.

الشرط الأساسي للنفوذ إلى القلوب هو تطبيق الدعوة ومبادئها على النفس أولاً وقبل كل شيء كما فعل ذلك رسول الله ﷺ.

يقول عبد الله بن رواحة:

لو لم تكن فيه آيات مبينة                     لكان منظره ينبئك بالخبر

فتح القلوب بإخلاصه

إن الذين آمنوا به ووهبوا قلوبهم له والذين خاطبوه بـ”يا رسول الله” كانوا هم الذين حكموا العالم وأداروه من بعده. فلم يكن نجاحه محصورًا في إيمان نفر قليل به. فمن بين هؤلاء الذين آمنوا به نجد أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم أجمعين، إذ كان كل واحد منهم شخصية كبيرة تستطيع إدارة العالم بأجمعه؛ فما كان أي من هؤلاء من ذلك الطراز الذي يمكن أن يسلم قياده بسهولة لكل من يظهر أمامه. فلو كان أمامهم أحد سوى رسول الله ﷺ ما كان أي منهم ليؤمن به أو يسلس قياده له. إن شخصًا في مستوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي يقول: “لو كُشِف الغِطاء ما ازددت يقينًا”([1])، والذي وصل في إيمانه إلى مستوى “حق اليقين”، أقول إن إيمان مثل هذا الشخص بالنبي ﷺ يُعدُّ دليلً قائمًا بحد ذاته.

لو شاء ﷺ لعاش عيشة رخية وهنية مثل عيشة الملوك، غير أنه فضَّل حياة الضنك والشدة على حياة الرفاهية والغِنى، وذلك في سبيل دعوته.

لقد كانت كل أحواله مؤثرة وساحرة بلغت أن العالم اليهودي عبد الله بن سلام ما إن رآه للمرة الأولى حتى قال: “فلما تبيَّنتُ وجهَه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب”([2]).

الإنسانية كلها تُحبُّه

أجل، لقد كانت رؤيته كافية للإيمان به. والذين أفنوا حياتهم كلها من أجل إيصال صوتهم وآرائهم للآخرين يعلمون مدى صعوبة هذا الأمر أكثر من غيرهم، أي الإيمان بهم من أول لقاء. لأن معظم هؤلاء يقضون حياتهم كلها في جهد متواصل فلا ينجحون إلا في جذب أشخاص بعدد أصابع اليدين.

مثَّل ﷺ في نفسه أجمل أنموذج للعبودية لله عندما كان يدعو الناس إلى هذه العبودية.

بينما انظروا إلى رسول الله ﷺ فهل ترون مثيلاً له أو شخصًا آخر يتربع في قلوب ما يقارب مليار شخص؟ وهل هناك شخص آخر غيره يذكر اسمه خمس مرات في اليوم من فوق المآذن في كل أنحاء العالم.؟ إذن فالإنسانية تحبه وتعلن هذا الحب كل يوم خمس مرات، هذا على الرغم من كل النظم والأشخاص العاملين ضده.

موافقة القال للحال

أجل، فعلى الرغم من كل شيء فما زال الرسول ﷺ متربعًا على عرش القلوب لأنه طبق على نفسه أولاً ما دعا الناس إليه، وعاش مثالاً حيًّا للمبادئ التي دعا إليها، لذا كانت كلماته تنفذ إلى أعماق الجماهير وتجد طريقها للتطبيق العملي.

لقد كان يمثل في نفسه أجمل أنموذج للعبودية لله عندما كان يدعو الناس إلى هذه العبودية. تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتصف مبيت رسول الله ﷺ عندها فتقول ثم قال: “ذريني أتعبَّد لربي” قالت فقلت: والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبَّدَ لربِّك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يُكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر؟ فقال: “ويحك يا بلال! وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزل عليَّ في هذه الليلة “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ”(آل عمران: 19) ثم قال: “ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها”([3])

ما زال الرسول متربعًا على عرش القلوب لأنه طبق على نفسه أولاً ما دعا الناس إليه، وعاش مثالاً حيًّا للمبادئ التي دعا إليها، فنفذت كلماته إلى أعماق الجماهير ووجدت طريقها للتطبيق العملي.

كان يصلي حتى تتورم قدماه. وعندما ذكر له يومًا أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا؟”([4])، لقد فتحت أمامه أبواب الشكر فكان جهده من أجل ذلك.

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: افتقدت النبي ﷺ ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسَّستُ ثم رجعت. فإذا هو راكع أو ساجد يقول: “سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت”، فقلت: بأبي أنت وأمي. إني لفي شأن وإنك لفي شأن آخر.

لو شاء لعاش عيشة رخية وهنية مثل عيشة الملوك. ولقد اقترحوا عليه في مكة مثل هذا العيش في مقابل التخلي عن دعوته، غير أنه فضَّل حياة الضنك والشدة على حياة الرفاهية والغِنى، وذلك في سبيل دعوته. فضَّلَ حياة العبد الرسول الذي يجوع فيتضرع أو يشبع فيشكر على حياة المَلِك الرسول. لقد كان أسلوب حياته البسيطة الخشنة هو الذي ربط الناس به.

الإنسانية تحبه ﷺ وتعلن هذا الحب كل يوم خمس مرات، هذا على الرغم من كل النظم والأشخاص العاملين ضده.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعيش أيضًا حياة بسيطة جدًّا، غير أن ما شاهده من طراز حياة الرسول ﷺ جعل الدموع تملأ عينيه. يقول عمر رضي الله عنه:

وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حَشْوُها لِيفٌ وأنّ عند رجليه قَرَظًا([5]) مصبوبًا، وعند رأسه أَهَبْ([6]) معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت. فقال: “ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله. فقال: “أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟”([7])

كانت أحواله ﷺ مؤثرة وساحرة بلغت أن العالم اليهودي عبد الله بن سلام لما رآه للمرة الأولى قال: “فلما تبيَّنتُ وجهَه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب”.

صحيح أن زمام الدنيا يجب أن يكون بأيدينا، وقد كان رسول الله ﷺ يدرك هذا أكثر من غيره، ولكنه كان يعيش حياته الشخصية بشكل بسيط جدًّا.. وفي الحقيقة إنه ما كان يعيش لنفسه بل لغيره. ألم يكن تمثيله لدعوته بهذه الكيفية من أكبر عوامل جذب الأرواح إليه؟.

حياته دروس لدعاة اليوم

إن في حياة الرسول ﷺ وسلوكه وتصرفاته وطراز حياته دروسًا قيِّمة للدعاة. أجل، فإن الشرط الأساسي للنفوذ إلى القلوب هو تطبيق الدعوة ومبادئها على النفس أولاً وقبل كل شيء كما فعل ذلك رسول الله ﷺ.

أحد الأساليب الديناميكية التي استعملها النبي ﷺ في دعوته، هو جعل طراز حياته مطابقًا تمامًا للمقام الذي يمثِّلُه.

إذا رأيت أن تشرح لأحدهم معنى مخافة الله والبكاء من خشيته، فعليك أولاً أن تقوم في الليل وتبلل سجادتك بالدموع. في نهار تلك الليلة وعندما تدعو الناس ستتعجب من مدى تأثير كلامك عليهم، وإلا ستتلقى صفعة من الآية الكريمة” لِمَ تَقُلُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف:2) فتلاقيك الخيبة في التأثير على الناس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) الأسرار المرفوعة لعلي القاري، صـ193

([2] ) الترمذي، القيامة 422؛ ابن ماجه، إقامة الصلاة 174، الأطعمة 1؛ الدارمي، الصلة 156، الاستئذان،4؛ السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 163- 164.

([3] ) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2/ 164؛ الجامع لأحكام القرآن الكريم للقرطبي، 4/ 197.

([4] ) البخاري، التهجد، 6؛ مسلم، صفات المنافقين 81.

([5] ) قَرَظًا: ورق شجر يدبغ به.

([6] ) أهاب: جمه إهاب وهو الجلد الذي لم يدبغ.

([7] ) البخاري، تفسير سورة التحريم2؛ مسلم، الطلق 31.

المصدر: فتح الله كولن، النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ8، 2013، صـ147/ 148/ 149/ 150.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.