Reader Mode

مساهمة في مستقبل الأمة الكبرى

“نحن حصادُ زرعِ السابقين،
وستصبح الأجيال اللاحقة حصاد زرعنا
وثمرة جهدنا وسعينا”.

(فتح الله كولن)

تبوّأَ الأستاذ محمد فتح الله كولن مكانةً متميّزة في الحياة العلمية والفكرية؛ بما أنتجه من مؤلّفاتٍ بعيدة الأغوار تأثرت بها المشاعر وتفاعلت معها العقول، فغدا أصحابها يُنشئون مؤسّسات تعليميّة لا حصر لها على مستوى العالم، ولـمّا عُهِدَ إليّ بإعداد مقدّمةٍ لهذا الكتاب؛ قمتُ بقراءته مرّةً واحدةً من أوّله إلى آخره، فأدركتُ أن هذا الأمر ليس بالسهل اليسير؛ لأن موضوع التربية غزير المواد والمفردات، ولقد تناول الكتابُ إجمالًا معظم المسائل المتعلّقة به، وأُدرجت بعضُ الأفكار القيّمة في إطار الآيات والأحاديث، وليس بالإمكان لفتُ انتباه القارئ إلى المحتوى بأكمله عبرَ مقدّمةٍ صغيرة، ويصعب أيضًا ترجيح موضوعٍ من موضوعات هذا المحتوى على الآخر؛ حيث إنّ جميعها مهمّة، ورغم هذا فقد رأيت من المناسب لفت الأنظار إلى عددٍ من المسائل التي ركّز عليها المؤلّف وكررها بوعيٍ وانتظامٍ، وإلى بعض النقاط التي شعرتُ بأهمّيّتها والحاجة إلى الإشارة إليها؛ بما يتناسب مع أسلوب المؤلّف.

أما الأمر الذي أؤكّد عليه بدايةً فهو أن اسمَ “مِن البذرة إلى الثمرة” الذي عُنوِنَ به هذا الكتاب الرائع الزاخر بالموضوعات والمسائل الدقيقة لهو اسمٌ متواضعٌ جدًّا، ولذا أريد في مستهلّ الكلام أن أستشير القرّاء في اسمٍ قد خطر على بالي -دون تكلّفٍ واستشرافٍ منّي- عند مطالعتي لهذا الكتاب ورأيت أنه أنسب، وإن لم يُكتب على الغلاف الخارجي؛ ألا وهو “مساهمة في مستقبل الأمة الكبرى”، وإذا ما نظرنا إلى هذا الكتاب على اعتبار أنه مؤلَّفٌ لرجلٍ حركيّ عمليّ يقوم بمشروعاتٍ بعيدة الأجل لخدمة مصلحة الأمّة ومستقبلها؛ عندها نفهم أنّ الاسم المقترح أنسب من اسمه الحالي.

وفي هذا الإطار ليس من الإفراط والمبالغةِ اعتبارُ هذا الكتاب بدايةَ حركةِ تجديدٍ نشِطةٍ على مستوى تركيا على الأقل، ويدعم هذا الاعتبارَ الجملُ التالية التي نصادفها بين عبارات المؤلّف: “الأسرة هي أهمّ ركنٍ في المجتمع، وسلامة هذا الركن يعني سلامة الأمّة والدولة، وبناءً على ذلك فلا ينبغي أن نترك هذا الركن الركين للأمة والدولة دون خطّةٍ أو نظام”.

وأريد أن أؤكّد مكرّرًا على وجود بونٍ شاسعٍ وفرقٍ واسعٍ بين هذا الكتاب وكتب التربية الأخرى التي لا تنسجم في كثيرٍ من فقراتها مع عالمنا وظروفنا الاجتماعية، وذلك لاكتفاء أصحابها بالاقتباس عن الكتّاب الغربيّين، ولم يستطع أغلبهم استيعابَ مسألة التربية بقدر الكفاية.

والسبب الرئيس في توقُّفنا عند اسم الكتاب في البداية هو محتوى الكتاب، إذ الكتاب ينطوي على كثيرٍ من الأفكار القيّمة التي يسهلُ على القارئ فهمها واستيعابها، وتدخل ضمن حدود إمكانياته وقدراته.

وأنبّه هنا أن مسألة التربية قد وُضعت بالكتاب في محتوى يتناسب مع ظروفنا وبالصورة التي لا بدّ أن نفهمها، والغاية من التربية كما سيلمس القارئ ليست مقيّدةً بالوصول إلى أشخاص مثاليّين على المستوى الفرديّ والأسريّ، بل إن الغاية الرئيسة كما أوضح الأستاذ فتح الله بعبارته البديعة: “المساهمةُ في مستقبل الأمة، وهي غايةٌ ساميةٌ يجب على الجميع أن يتغيّاها، وهي مرتبطةٌ بوجود الفرد المثاليّ والأسرة المثالية”، وبناءً على هذه الفكرة تصدّر هذا الكتاب موضوع “الزواج والأسرة”، ثم تبِعَتْه المسائل المتعلّقة بالتربية.

التصنيف

وتصنيف الكتاب أيضًا ملفتٌ للنظر، فمسألة التربية لا تعني تربيةَ الأطفال الذين وصلوا إلى سنٍّ معيّنةٍ فقط، ولا يجب أن ننظر إليها على أنها حادثةٌ منفصلةٌ عن كلّ مناحي الحياة، بل إنها كما ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مسيرة طويلةٌ يتخلّلها كثيرٌ من المراحل بدءًا من الأوصاف التي ينشدها الشخصُ في المرأة التي ستكون أمًّا لأبنائه وحتى الوفاة، هذا ما يقتضيه مفهوم التربية.

وقد تعرض الكاتب في مدخل الكتاب إلى بعض المسائل العامّة حتى يُقنع القارئ بأهمّيّة وشموليّة مسألة التربية، فعلى سبيل المثال تضمّن هذا القسم الذي يبدأ بـ”مفهومنا الأخلاقيّ” بعضَ العناوين الجانبيّة التي تبدو وكأنّها بعيدةٌ عن بعضها مثل: تدهور الأمم، والأخلاق العالية، وزينة الحياة الدنيا، والإنسانيّة في مرتبة أعلى علّيّين… الخ، أعقبتها سلسلةٌ من المعلومات المكمِّلة لبعضها حول أهمّيّة التربية؛ مدعَّمة بأدلّة من الكتاب والسنة.

ثم تلا ذلك فصولٌ تندرج ضمن قضايا التربية ومراحلها؛ بعضها أهمّ من الآخر، تجذب الانتباه على قدر أهمّيّتها، مثل: الزواج، والأسرة، والحساسيّة في التربية، والتربية الدينيّة للطفل، وكيف نحدّث أبناءنا؟ وأبعاد التربية، ومقارنةٌ بين التربية القرآنيّة وغير القرآنيّة.

وبعد هذا الإيضاح اليسير أريد أن أنوّه بمسألتين تشكّلان أهمّيّة كبيرةً في هذا العمل.

أهمّيّة الأسرة

يرى الأستاذ الفاضل محمد فتح الله كولن أن الأسرةَ هي أوّل ما يدور بخلد الإنسان عند الحديث عن التربية؛ لأن “الأسرة هي أوّل لبنةٍ في التربية والتعليم، وأول كتّاب وأول مدرسة”، و”لا بدّ أن تبدأ التربية من العشّ حتى يُكتب لها البقاء والاستمراريّة، فلا يمكن أن نتصور التربية في مجتمعٍ دون أن يؤسَّس العشُّ فيه على أُسُس التربية”، أما إذا كان الأمر متعلّقًا بالجيل الذي يؤسّس المستقبل فليست كلُّ أسرة جديرةً بالقيام بهذه العملية، لأن “الأجيال المثاليّة تحتاجُ عشًّا مثاليًّا في البداية”، “والأسرة هي أهمُّ ركنٍ في المجتمع، وسلامةُ هذا الركن تعني سلامةَ الأمّة والدولة”.

ومن هنا تحتلّ المرأة أهمّ مكانةٍ في الأسرة الجديرة بالاهتمام بها، ولذا:

كانت أولى المسؤوليات الملقاة على عاتق ربّ الأسرة هي اختيار رفيقة حياته من “المسلمات، المؤمنات، القانتات، الصادقات، الصابرات، الخاشعات، المتصدّقات، الصائمات، الحافظات فروجَهن، الذاكرات اللهَ كثيرًا”، كما يجب أن يكون الأبوان ماهرين في التربية، ولديهما شعورٌ بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهما عند تربيتهما لأولادهما، وأن يتزوّدا بما يحتاجانه من معلوماتٍ تخدم هذه الغاية، فعلى كل من يبغي الأبوّة أو الأمومة أن يعرف أو تعرف قدرًا ما مِن علم النفس والتربية، أو على الأقلّ المبادئ التي أوردها القرآنُ الكريم إجمالًا في هذا الصدد… إذن: يجب على الإنسان أن يتعرّف إلى سبل تربية النشء المثالي المستقيم.

وهذه رسالةٌ للمسؤولين أيضًا في بلدنا، فللدولة أن تسنّ نُظُمًا قانونيّةً تشترط على المقبلين على الزواج أن يجتازوا دوراتٍ تدريبيّة لتزويدهما حول التربية والصحّة وتدبير المنزل؛ كما يحدث في بعض الدول الأوربّيّة، ومع انتظارنا لهذا من الدولة فعلى الأفراد أن يقوموا بتربية أنفسهم بأنفسهم حتى يتحقّق هذا الأمر، ونعتقد أن هذه التوصيات التي وردت بهذا الكتاب ستجد لها صدًى واسعًا يتزايدُ بمرور الوقت.

عددُ الأطفال

ورغم أنّ الغاية الأولى من تكوين الأسرة هي دوام النسل؛ أي إنجاب الأولاد فإن الكتاب يذكر أن الأهمّ من ذلك هو التعمّق الروحيّ والرقيّ المعنويّ والشموليّة، وفي هذا ترويجٌ للنسل الجيّد حتى يترعرعَ على أسسٍ ومبادئ سليمة، ومن ذلك قوله: “على المسلمين أن يهتمّوا بالرقيّ المعنوي والتعمّق الروحيّ وتوثيق العلاقة بالله تعالى”، وهنا يوصي المؤلّف الجميع بإنجاب أطفال بقدرٍ يسمح لهم بتربيتهم تربيةً مثاليّةً دون الوقوع في ورطة الأرقام والحسابات.

التفكُّر قبل التربية

ثمّةَ مسألةٌ أخرى تُكسِب الكتابَ نوعًا من الإقناع وهو أنّ الكتاب يوجِّه القارئ إلى التفكّر الدائم والمحاكمات العقليّة، والبحث في المسألة عن الأسباب والدوافع، والتفكير قبل التربية يعني: التفكير في الجوانب السلبيّة والإيجابيّة في تربية الطفل، وكيف ننظرُ إلى تربية أطفالنا؟ وكيف نُقيّم قضاء الأطفال جلّ أوقاتهم هنا وهنالك حتى ساعاتٍ متأخّرةٍ من الليل، وهل سنفتح أبوابنا وصدورنا لهم لو عادوا في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ؟

إن مثل هذا التفكُّر يعدّ بالنسبة للشخص بمثابة محاسبة النفس، فهل حدّثنا أنفسنا بهذه الأسئلة! ونحن الذين لا تكفّ ألسِنَتُنا عن الحديث عن التربية، ونبذل كثيرًا من التضحيات من أجل تعليم أبنائنا؟ وهل هناك قِيَمٌ عُليا نريد أن نلقّنها لأطفالنا، هل تبنّينا ذلك وعملنا عليه؟ هل سألنا أنفسنا هذه الأسئلة، وهل أعددنا جوابًا لها؟ فإن لم نكن على استعدادٍ للردّ عند السؤال ألا يُعتبر هذا نقصًا فينا؟

ومما يُلفت النظرَ التنبيهُ إلى هذا الخلل:

“الطبيعة لا تحبّ الفراغ، فإن لم تملأ قلبَ ولدك الفارغ امتلأ قلبه بالآخرين، وعندئذٍ ربما تصبح أبًا أو أمًّا لإنسانٍ ملحد دون أن تشعر”.

التربية الدينية

تتبوّأ التربية الدينيّة مكانَ الصدارة في تربية الطفل، ولذا شغلت حيّزًا كبيرًا في هذا الكتاب الذي ركّز أيضًا على منهج هذه التربية ومحتواها.

فلا بدّ من تعلّم الطفل للقرآن، ولكن دراسة القرآن ليست عبارةً عن ترديد الآيات بألفاظها وعباراتها فقط، بل ينبغي أن يصاحب ذلك الحركيّةُ والتطبيق، كما أنه لا بدّ أن تسوق الطفلَ رغبةٌ داخليّةٌ لتعلّم القرآن وحفظه لا التهديدُ والترويعُ، ويجب ألا يكون تعليم القرآن عبارة عن حفظٍ مجرّد عن الفهم والتفكّر، وإنما يجب أن يقترن الحفظُ ببيان المقاصد الإلهيّة في الآيات، كما “يجب أن يُثار في الطفل حبُّ التطلُّع لتعلّم كتاب الله سبحانه وتعالى”، وفي هذا يقول الأستاذ كولن: “إنني على قناعة بأن قراءة القرآن بلا خشوع تجعل الإنسان بلا وعي”.

وفي هذا السياق جاء التنويه بالأسلوب والمنهج الذي يجب أن يتبعه المعلِّم، فمثلًا جاءت الإشارة إلى ضرورةِ التفرقةِ بين الأعمار عند تلقين المعلومات الدينيّة، فالصبيّ في الخامسة عشر يختلف عن شابٍّ في الخامسة والعشرين، كما تطرّق الكتاب إلى معاملة بعض كبار السن غِلاظِ الطباع في المسجد للأطفال؛ ممّا يجعل الأطفال يرونهم كالزبانية.

أما عن أهمّ رسالةٍ في مبحث التربية الدينيّة فهي تأكيدُ المؤلِّف على ضرورة الاستفادةِ من العلوم الطبيعيّة ناهيك عن العلوم الشرعيّة التي تُدرّس في المدارس عند التعريف بالله سبحانه وتعالى، والتفسيراتُ المقنعة التي أوردها في هذا الخصوص.

 ويحضّ الكتاب مَنْ يكتبون عن تربية الطفل على اتّخاذ هدفٍ حيويٍّ واستراتيجيٍّ عظيمٍ لا سيّما في ذلك الوقت الذي باتت فيه الهيمنة لأعداء المقدّسات الذين بغوا واستطالوا لدرجة أنهم أعربوا على شاشات التلفزة عن استيائهم حتى من ذكر اسم الله في قصص الأطفال، وإننا لنأمل أن يتحرّك أولو الحماسة وفقًا لما تقتضيه هذه الرسالة.

تربية الكبار

ثمّة جانبٌ يتوافق مع غاية المؤلَّف وإن كانت لا تتوافق مع اسمه ألا وهي التركيز على تربية الكبار لا الصغار، يعني تربية المربّين؛ وهم الآباء والأمهات، ولو أن الكتاب عُنوِنَ بـ”تربية الآباء والأمهات” لكان هذا أليق وأنسب للمحتوى، لكن من يقدر على فهم واستيعاب هذا الاسم؟ فمن يرَون أنّ ما يفعلونه كافٍ لتربية أطفالهم –ومعظمنا من هؤلاء- أو من لا يفكّرون ألبتّةَ في هذا الأمر فقد يعارضون هذه التسمية؛ فيظلّ تأثير المؤلَّف محدودًا، ولكن هذا لم يحدث؛ حيث أقنع المؤلِّف بدايةً الآباء والأمّهات بالمثاليّات التي يجب أن يلقنوها لأبنائهم، ثم أكّد على أنّ القدوة هي أهمّ شرطٍ لتزويد الطفل بهذه المثاليات، وقد شدّد المؤلّف في كلّ مبحثٍ تقريبًا على المسؤوليّة التربويّة وترتُّب نجاح التربية على التزام المربي القدوة بتلك التعاليم، وبتعبيرٍ آخر: عالج الكتاب بشكلٍ مجملٍ بعض الموضوعات مثل: كيفيّة تأسيس الأسرة الإسلاميّة في ضوء النصوص الواردة في الكتاب والسنة، وكيف يجب أن تكون العلاقة في الأسرة الإسلاميّة بين الأب والأمّ، وبينهما والأولاد، وكيف ينبغي أن تكون الحياة الدينيّة في الأسرة.

أجل، إننا أيضًا نوافق على كلّ ما سبق، فتعليم الكبار يمكن أن يتمّ بشكلٍ نظريٍّ، أما الصغار فلا بدّ لهم من التطبيق العمليّ، فالنافع لهم هو توجيههم إلى كلّ ما نريد أن نعلّمه لهم من خلال معايشتهم لذلك في ثنايا حياتنا الشخصيّة، وكما هو معلومٌ لدى جميع المربّين؛ التقليد هو الأساس في حياة الطفل، فالتقليد لدى الأطفال يفوق أضعاف أضعاف ما لدى الكبار، فالأطفال يرَون الحسن والقبيح حولهم ويقلدونه، ويدمجونه بحياتهم حتى يصير مَلَكَةً عندهم.

ومن ثمّ نبّه الكتاب على ضرورة أن يكون الآباء والأمّهات الذين يربّون جيل المستقبل؛ قدوةً لأبنائهم في الأوامر الإلهيّة وجميع الجماليات التي أمر بها الدين والتي لا بدّ من تعليمها للطفل مثل: العبادة، والمعاملات الإنسانية، والفضائل الأخلاقية، فضلًا عن ضرورة انتقال الدرس من لسان المقال إلى لسان الحال، وقد كُرّرَت هذه الأمور، وبُيِّنَت بأمثلةٍ من التاريخ.

 وقد شبّه المؤلّف مَن لا يستطيع أن يفعّل أقواله في حياته بمن لا تسقط دمعةٌ من عينه ثم نراه يقول: “كلّما ذكرتك يا ربي فاضت عيناي بالدموع الغزار”، فهذا “كذبٌ على الله، ومحضُ رياءٍ”.

وثمة عبارةٌ للأستاذ فتح الله كولن تُعيننا على كشف سرّ تلك النجاحات التي حققها ونالت تقدير العالم كله: “أجل، إن كانت هذه الكلمات ترجمانًا لعالم الإنسان الداخليّ ولدنّه وسلوكيّاته فإن ما نشعر به ونفكّر فيه ونرغب في توصيله للآخرين سيجد له صدًى في نفوس المخاطبين، وإلا…”.

وما ينبغي أن ننبّه عليه في هذا الصدد هو: “الاقتداء في الإيجابيّات يقابله الدقّة والحساسيّة في السلبيّات والمحرّمات”.

المراقبة

ويشدّد الكِتاب على المراقبة على اعتبار أنّها من أهمّ المسائل التربويّة الملقاة على عاتق الأبوين، ويوصي العائلةَ بألا تترك الطفل حبلُه على غاربه، بل لا بدّ من مراقبته عن قربٍ وتوجيهه إلى الغايات المثلى التي تنشد تعليمها له، فلا تكفي معرفة الكتب التي يقرؤها أو التعرّف على أصدقائه الذين يرافقهم، بل وحتى تحديدهم له مسبقًا، وإنما ينبغي أن تخيّم روح الدين على كلّ مكانٍ يتردّد عليه الطفل مثل: المكتبة التي يشتري منها دفتره وقلمه، والخيّاط الذي يخيط له ملابسه، والحلّاق الذي يهذّب له شعره، فينبغي أن يتوفّر في كلّ هذه الأماكن عنصر التذكرة بالله، فضلًا عن إحكام السيطرة على استخدام الأطفال للتلفاز.

علاوةً على ذلك يجب على الأبوين أن يتحرّيا الدقّة في الحوارات التي تجري بينهما أمام الطفل، فيجب أن تدور هذه الحوارات حول المبادئ التي تهمّ الطفل وننشد تعليمها له، وأن تتمحور حول موضوعات متعلقة بالله سبحانه وتعالى.

إننا في هذه المرحلة التي بات فيها الإنسان بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التربية، وفي هذا العهد الذي تُحاك فيه المؤامرات للمشرّدين ونسمع بين الفينَة والأخرى دعواتٍ تنادي بعدم التدخّل في شؤون الأطفال والشباب وإطلاق حرّيّتهم حتى غدا الآباء والأمّهات في حيرةٍ من أمرهم؛ تُسعفنا توجيهاتُ هذا الرجل الفاضل الموثوق بإخلاصه وعلمه، وهي توجيهاتٌ تُعدّ بمثابة ماء الحياة بالنسبة لنا وبوصلة توضِّح الطريق لمن ضلّ في الصحراء.

وإنني على ثقةٍ بأن كثيرًا من المحبّين المخلِصين الذين يحدوهم الأمل إلى تنشئة جيلٍ مثاليّ؛ سيسعون سعيًا حثيثًا لتصحيح مسار حياتهم أوّلًا، لنصل بعد ذلك إلى الهدف النبيل والثمرة المرجوّة.

المصادر

أما عن الخاصّيّة التي تدعم الثقة في الوصايا والأفكار المبثوثة في الكتاب فهي اعتماد الفكرة الرئيسة التي يتناولها كل فصلٍ على الآيات والأحاديث الشريفة، وإذا ذُكرت أحاديث ضعيفة ينوَّه إلى ضعفها وسبب ضعفها.

وإن وجود أسماء بعض أئمة أهل البيت لا سيّما زين العابدين عليّ بن الحسين والإمام جعفر الصادق رضي الله عنهم بين المصادر والتنويه بهم والاستفادة منهم؛ لَيشكّل خاصّيّةً وميّزةً أُخرى لهذا العمل، فهذا الأمر لا يرمي إلى الاستفادة من هؤلاء العلماء فحسب، بل يُقيم في الوقت ذاته جسرًا بين العالمين السنّيّ والشيعيّ اللذَين أُغلقت فيما بينهما أبواب الأخوّة والمحبّة، وقَطّع أواصرَهما التعصُّبُ الذي جاءت به بعض الطوائف الشيعية، والحقُّ أننا في هذا الوقت الذي فُرِّق فيه المسلمون عن بعضهم عبرَ مؤامراتٍ محاكةٍ ومنظّمة لفي حاجةٍ إلى مثل هذا المنهج الذي استهلّه الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِي.

الوصايا التي تمنح الثقة الكاملة

وثمّة خاصّيّةٌ أخرى جعلت هذا الكتاب متميّزًا عن الكتب التربويّة العاديّة، وهي استخدام المؤلِّف لأسلوب الجزم والقطع فيما يذكره من أفكار وما يوصي به من مبادئ وما يوضّحه من أهدافٍ وما ينصّ عليه من تطبيقات.

أجل، العبارات جازمةٌ لاستنادها إلى الآيات والأحاديث، وهذه المسألة دعت الأستاذ الفاضل كولن إلى توضيحها في الكتاب حيث قال: “إننا إن كنّا قد حتّمنا القول في الحديث عن القيم والمبادئ واستخدمنا الجمل القاطعة فهذا يرجع إلى اعتقادنا بأننا ننظر إلى المسألة من منظور الكتاب والسنة، وهذا على الأقل يقوّي ظنّنا في هذا الاتّجاه”.

وهذه مسألةٌ مهمّةٌ جدًّا بالنسبة إلينا، فمن المهمّ بالنسبة للمؤمن أن يكون مصدر المبادئ والتوجيهات التي سيثق بها ويطمئنّ إليها مقدَّسًا، بمعنى أن تكون مستنبطةً من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإنّنا إذا أخذنا في الاعتبار كثرةَ عدد المحبّين للأستاذ فتح الله كولن الواثقين فيه وأن أغلبهم شبابٌ يتمتّع بوعيٍ كبيرٍ ومستوًى ثقافيٍّ عالٍ إذا ما عزم على شيءٍ أتمّه؛ جاز لنا أن نقول: إن عهدًا جديدًا أكثر تركيزًا وتنظيمًا سيبدأ في عمليّة التنشئة لجيلٍ مثاليّ، وإن نشر هذا الكتاب مع بداية الألفيّة الثالثة لهو توافقٌ ذو مغزًى عميق وفألُ خيرٍ إن شاء الله، وإنني شخصيًّا لأشعر بأن صياغة هذه الأفكار الوعظيّة على شكل كتابٍ في بداية الألفيّة الجديدة بعد أن كانت تُلقى على زمرةٍ محدودةٍ من المستمعين في فترة ما قبل الثمانينات من القرن المنصرم ليحمل لنا رسالةً فحواها:

“يا مجانين ليلى؛ أحبّوا غايتكم المثلى كحبِّ المجنون لليلى على الأقلّ، غير أن سبيل الوصال بليلى هذه سبيلٌ مختلفٌ تمامًا، فدعوا الجنون وأفيقوا من غفلتكم وأجمِعوا أمركم، وارجعوا إلى المنطق السليم وإرشاد العلم، مع الاستفادة والاعتبار بالحوادث التي وقعت في الماضي القريب، لقد وثقنا كثيرًا في الماضي ببعض المؤسّسات والسياسات واستسلمنا للدّعة والخمول، وانخدعنا بالمظهر وأغفلنا المخْبَر، فالآن علينا أن ندرك مسؤوليّتنا وأن نحقّق مزيدًا من الاهتمام بتربية أطفالنا دينيًّا وعلميًّا، وأن نجعل من كل بيتٍ مدرسةً”.

وإنني لعلى ثقةٍ بأن جموعًا غفيرةً ستستوعب هذه الرسالة، ويبدأ المحبّون المخلصون مرحلةً جديدةً في فعاليّاتٍ ونشاطاتٍ غايتها القلب والروح.

هل سينجحون؟

لا شكّ في ذلك.

إن هؤلاء الأبطال قد بلّغوا صوتَ أمتهم، وحملوا رايتَها التي جعلوها علَمًا من أعلام إعلاء كلمة الله، ومن ثمّ فإنهم سيبلغون أهدافهم بإذن الله، وما أُنجِز دليلٌ على ما سيتمّ إنجازه.

أجل، إن قدر الحبّ الذي يكنّه عشّاق هذا العصر تجاه فكرة إعلاء كلمة الله ليفوق أضعافًا مضاعفَةً ذلك العشق الذي كان يحمله مجنون ليلى لمحبوبته، إنهم أبطالٌ اكتشفوا شيئًا يُنتج الطاقة ويضبطها ويحدّ منها في الوقت ذاته ألا وهو قوّة الإرادة.

ولعلّ الذين حاولوا قديمًا أن يخيّبوا سعي وجهود الأستاذ فتح الله كولن بما قاموا به من حملات كذبٍ وتشهيرٍ سيصرّون على عدم فهمهم للإسلام، وسيبدؤون سلسلةً جديدةً من هذه الحملات، وإني لأرجو أن يُقرأ هذا الكتاب بإنصافٍ ودقّةٍ بالغةٍ، ولا جرم أننا إن فعلنا ذلك سندرك أن هذا الكتاب من المقوّمات الرئيسيّة التي تبني مستقبلنا.

 إسطنبول، 7 يناير/كانون الثاني (2000م)

أ.د.إبراهيم جانان[1]

[1] أ. د. إبراهيم جانان (Canan) (1940م – 2009م)

كاتب وأستاذ أكاديمي بكليات الإلهيات قسم الحديث في تركيا، ألّف العديد من المؤلفات القيمة خلال حياته العلمية، وترجم من اللغة العربية إلى التركية كتاب “تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم” لعبد الرحمن بن علي بن الديبع الشيباني (ت: 944هـ)، وهو كتابٌ اختصر فيه المؤلف كتاب “جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم” لابن الأثير (ت: 606هـ)، وجمع فيه كتب الحديث الستة (وهي موطأ مالك، وصحيحا البخاري ومسلم، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي)، عنون المترجم كتابه الذي جاء في ثمانية عشر مجلدًا بعنوان: “موسوعة الحديث الشريف: الكتب الستة“، ولقد قدم لهذا الكتاب شرحًا إلى جانب الترجمة، وهو كتابٌ يحتلّ مكان الصدارة في الكثير من مكتبات الأسر التركية.

حصل الأستاذ الدكتور “إبراهيم جانان” على جائزة “الوقف الثقافي الوطني التركي” عام (1979م) عن كتابه: “تربية الطفل في الأسرة والمدرسة وفقًا لنهج الرسول صلى الله عليه وسلم“، تخرّج على يديه الكثير من الطلاب في كليات الإلهيات في مرحلة الليسانس والماجستير والدكتوراه، تقاعد من العمل في كلية الإلهيات بجامعة “مرمرة” في إسطنبول عام (2007م)، ولكن هذا لم يُقعده عن مواصلة جهوده العلمية؛ حيث استمرّ في تأليف الكُتب والمقالات إلى جانب المشاركة في الندوات والمؤتمرات.

توفي رحمه الله عن عُمر يناهز التاسعة والستين عامًا جرّاء حادثٍ مروريٍّ مُروّعٍ تعرض له في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام (2009م)، ودفن في مقابر “أيوب سلطان” بإسطنبول، رحمه الله رحمة واسعة. (مترجم)

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts