Reader Mode

سؤال: ورد في القرآن الكريم أن ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/17)؛ وهناك أيضًا ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/29) أي إن الله قد منح الإنسان العقل والتفكر والإرادة، وهداه السبيلين أيما شاء سلك. كيف يمكننا أن نؤلّف بين كلا الأمرَين؟

الجواب: هناك شقان في هذا السؤال: جريان الأمور هل هو حسب الإرادة الإلهية الكلية، أم حسب الإرادة الإنسانية الجزئية؟

في الآية الواردة ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/17) معنى الهداية هو الرشد واتخاذ الطريق الصحيح، وهو طريق الأنبياء. أما الضلالة فهو سلوك الطريق المنحرف، والعدول عن الطريق الصحيح، والابتعاد عن الاستقامة.

إن أمْعنا النظر رأينا أن كلا منهما فِعل، فوجب إرجاعهما إلى الله تعالى لأن كل فعل -كما قلنا سابقًا- يرجع إلى الله تعالى، وليس هناك أي فعل لا يرجع إليه. أجل، فالضلالة مرجعها أنه سبحانه يضلّ من يشاء كما أن مرجع الهداية أنه يهدي من يشاء، فكلاهما منه سبحانه وتعالى.

ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد للعبد أي دخل وأي كسب، أو أنه يُدفع إلى الضلالة جبرًا، أو يساق إلى الهداية سوقًا، فيكون ضالًّا ومنحرفًا في الحالة الأولى، ومهتديًا وراشدًا في الحالة الثانية. نستطيع أن نفهم هذا الأمر بشكل بسيط كما يلي:

إن كان الوصول إلى الهداية أو السقوط في الضلالة عملًا بوزن عشرة أطنان مثلا، فلا يملك الإنسان منه عشر المعشار، بل العمل كله لله تعالى.

لأذكر مثالًا ملموسًا: إن الله يهدي، وللهداية وسائلها مثل الذهاب إلى الجامع، والاستماع للنصائح، وتنوير العقل وتثقيفه… كلها من وسائل الهداية، والاستماع إلى القرآن الكريم وتدقيق معانيه والتعمّق فيها من وسائل الهداية أيضًا. والتتلمذ في مدرسة الرسول r، والاستماع إلى أقواله بقلب حاضر، والاسترشاد بمعلم وأخذ الدروس منه، والدخول إلى الجوّ الروحي للرسالة وللنبوة وفتح القلب لكل نسائم تجلياته طريق من طرق الهداية. نعم، يستطيع الإنسان المباشرة بالطرق المؤدية إلى الهداية. أجل، مع أن المجيء إلى الجامع مباشرةٌ بسيطة إلا أن الله تعالى يجعلها وسيلةً للهداية، أي أن الهداية من الله، ولكن للعبد “كسب” معيّن في طرق باب الهداية.

وقد يذهب الإنسان إلى الخمّارات والبارات، وبهذا يطرق بابًا كُتب عليه أنه سبحانه يُضلّ من يشاء ويطلب الضلالة لنفسه، فإن شاء الله أضله وإن شاء وضع أمامه عوائق تمنعه من الانحراف والضلالة. إذًا يتضح أن ما في يد الإنسان من شيء ضئيل لا يكفي ولا يستطيع أن يكون سببًا للهداية أو للضلالة.

لأضرب هذا المثل: قد تُصغي إلى القرآن الكريم وإلى المواعظ والنصائح وقد تَقرأ كتابًا علميًّا جيدًا فتحس وكأن الأنوار تشرق في قلبك، بينما يستمع شخص آخر إلى الأذان أو إلى المواعظ أو إلى المناجاة والأدعية الضارعة الخارجة من القلب فيحس بضيق ويقول “ما هذه الأصوات المنكرة؟” أي يشكو من أصوات الأذان.

إذًا فإن الله تعالى هو الذي يعطي الهداية أو الضلالة، ولكن إن سلك أحد طريق الضلالة بعناد فإن الله تعالى يخلق له ما يتبقى من 99,9% من العمل العائد له تمامًا كعملية الضغط على زر لتشغيل آلة ضخمة ثم يحاسب الإنسان لميله إلى الضلالة ويعاقبه أو يعفو عنه.

فهرس الكتاب