Reader Mode

نسير منذ القدم في حياتنا الخاصّة مهاجرون دائمًا طالما اجتنبنا المحارم كافّةً كما في الحديث النبوي الشريف: “الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ”[1].

وكثير منّا يهاجرون فرادى أو مع أُسَرِهم وفق ما تقتضيه خدمتهم هجرةً تشبه الجهاد المادي؛ لا سيما أن انهيار الشيوعيّة في آسيا الوسطى أغذَّ السيرَ بالهجرة أكثر، ولهذه المسألة بُعدٌ آخر يتمثّل في الجهود المبذولة من أجل التعريف بقيم أمتنا في أوروبا وأمريكا وغيرها.

أريد هنا أن ألفت انتباهكم إلى قضية وهي: أن من شرط الهجرة أن تكون لله فحسب، وألّا تخالطها أية دعوى أو تشوّف دنيوي؛ وتحقّقُ أمرٍ كهذا رهنٌ بأمورٍ منها: سلامة جوانيّة المرء، واكتشافُه حقيقةَ نفسه، وقوةُ ارتباطه بالله، ومراقبته له سبحانه حيثما كان، وطاعته إياه، وذكره له على الدوام. نعم، أرى أن على الناس أن يطلبوا بمنازلهم ودورهم وبلادهم وأوطانهم -إن كانوا لا محالة تاركيها-ثمنًا غاليًا جدًّا، وذلك بتحمّلهم هذه التضحيات في سبيل غايات سامية، وأهداف عظيمة جدًّا، وقد أشار الله تعالى وكذا رسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغايات وتلك الأهداف؛ وهي: الله وجنته وجماله ورضاه وشفاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.

من شروط الهجرة أن تكون لله فحسب، وألّا تخالطها أية دعوى أو تشوّف دنيوي.

أحد الصحابة الكرام خسر في زمنٍ هو أدعى للكسب رغم أنه تحمّل كسائرِ الصحابةِ المشقةَ نفسها والصعوبة عينها؛ ذلك أنه لم يُخلِص النية، ولم يحسنْ ضبط توازن قلبه على نحو ما سبق؛ وقال صلى الله عليه وسلم في هذا الصحابي المهاجر من مكة إلى المدينة من أجل امرأة: “مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ”[2]. أي إنه عجز عن أن يسمو إلى مرتبة “المهاجر إلى الله ورسوله”، ومن هنا أيضًا يمكن القول: إن الأهم على الإطلاق هو توازن القلب ومراقبة الذات والمحاسبة وإخلاص النية.

إن الصحابة الكرام لم يُمنَّوا قطّ بأيّ شيءٍ نحو: “إن تحمّلْتُم تلك التضحيات العظيمة فسيكون لهجرتكم كذا وكذا من النتائج؛ بل حُدِّد لهم الهدف فحسب.

أجل، إن الصحابة الكرام لم يُمنَّوا قطّ بأيّ شيءٍ نحو: “إن تحمّلْتُم تلك التضحيات العظيمة فسيكون لهجرتكم كذا وكذا من النتائج: ستتحدَّوْن العالم في عقد واحد، وستنتشرون في كذا وكذا من العالم وتصبحون ولاةً وحكامًا وإداريين…”؛ بل حُدِّد لهم الهدف فحسب، وأُمروا أن “يهاجروا إلى المدينة” وقد هاجروا رغم كلّ شيء؛ ثَبَتَ بهذا إذًا أنّ مصدر هذه القضية هو انضباط جوّانية حَمَلَتِها إلى الحياة، وقوةِ صلتهم بالله تعالى؛ وهذا الضرب من الناس يقولكما قال الشاعر الربّاني “يونس أمره”:

لفحةٌ من جلالٍ زلزلَ                 أو نفحةٌ من جمالٍ نزلَ

في هذا وذا للروح صفَاء                      فمنك اللطف والقهر سَوَاء

وذلك دون الشعور بأي ضربٍ من التردد، أو الوقوع في أي نوع من الشبهات.

وقد أسبغ الله تعالى علينا ثوب الهجرة كرّةً أخرى اليوم، فله تعالى على هذه النعمة التي قدّرها لنا ما لا يُحصَى مِن الحمد والثناء، وإذا كان الأمر كذلك فعلى من تسربلوا ثوبًا كهذا أن يضبطوا جوانيتهم جيّدًا إن كانوا يرجون ألا تذهبَ أعمالهم سُدًى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري، الإيمان، 4؛ سنن أبي داود: الجهاد، 2.

[2] صحيح البخاري، بدء الوحي، 1، النكاح، 5؛ صحيح مسلم، الإمارة، 155.

*محمد فتح الله كولن، الموشور، دار النيل، مصر، 2015، ص46.

* عنوان المقال من تصرف المحرر