Reader Mode

من يستطيع أن يقول: إن المدارس في كل هذه المدة المديدة قد أثمرت المرتجى؟ صحيح أن كثيرا من الشباب حصّلوا تعليمًا عاليا في باريس ولندن وميونيخ ونيويورك… لكن هل صاروا أعضاء نافعين لمجتمعهم؟ بل على العكس؛ فدع عنك كونهم أعضاء نافعين، رجع أكثرهم إلى بلادهم بأحلام (فانتازيات) مختلفة، وجلبوا للوطن معضلات عويصة بتأثيرِ تياراتٍ مثل الأنكلوسكسونية والنازية والسلافية، أو الرأسمالية والليبرالية والشيوعية؟ فزادوا الاضطراب اضطرابا، وزادوا القطيعة مع الذات شدة… ولا زلنا نرجو ونأمل ألا يدوم الحال على هذا المنوال. والحقيقة أن ثمة أسبابا كثيرة تبعث على الرجاء والتفاؤل؛ فقبل كل شيء، قد أصبحنا نعي إبان هذه المدة ما أصابنا من الغدر والظلم. ويمكن لألبوم الصور المريرة هذه أن تلهمنا صورا مختلفة منذ الآن.. إنَّ تَعَلُّقَنا بمد جسور الصداقة مع فرنسا وألمانيا وإنكلترا وأمريكا، وخيبةَ آمالنا، وقلةَ حيلتنا، والتجاربَ التي اكتسبناها في خضم محاربة المئات من السلبيات، قد تحولت إلى توتر روحي جاد يمكن أن يولد انفتاحًا على غرار “قوة الطرد المركزي”. لكن استثمار هذا التوتر استثمارًا جيدًا واجب يقع على عاتقنا نحن.

ظلَّت البيئة مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات. ويمكن أن نسميها “البيئة العامة” التي تتكون من الأحاسيس والأفكار والسلوكيات والأصوات والألوان والأساليب والأداء والخصوصيات الأخرى الحاوية على أعماق متنوعة من طبيعة الأمة.

هل المدارس معضلة الدول المتخلفة ؟

المدرسة أعطت ثمارها بمقدار أهميتها. والآن جاء أوان ترويض ما ألهمته المدارسُ من العلوم والتجارب بعجنها في معجنة أرواحنا نحن، وتغذيتها بأسس ثقافتنا نحن. ذلك بأننا إن كنا عازمين على المضي قدما نحو المستقبل، فلا مناص من أن نكون ذاتيين في المنطق والمحاكمة العقلية والأسلوب، باستثمار تراكمنا العلمي والتجريبي في مواقعه المناسِبة. فقد تُكسب المدرسةُ الإنسانَ تراكمات وتجارب علميةً واجتماعية واقتصادية وسياسية؛ لكنَّ تقبُّلها من قِبل فئات المجتمع كافة ودوامَها مرتبط بامتزاجها وتكاملها مع الجذور المعنوية للمجتمع وبنيانه الفكري. ولهذا فإن معضلة أمثالنا من الدول المتخلفة إنما هي عجزها عن اكتشاف حقيقة المدرسة بروحها ومعناها، بل -وبالأحرى- إنها معضلة ثقافية في أصلها. ومن الضروري واللازم أن تُحَلَّ هذه المشكلة في أرضيتها هي. نعم، هناك أمور كثيرة نحصل عليها وتتشربها أرواحنا ونحن على مقاعد المدرسة، ولكن ثمة أمر أشد وَقْعًا وتأثيرا، ألا وهو الثقافة.. ومما لا مرية فيه أن الثقافة من الأمور التي تنتجها البيئة والمحيط.

 البيئة وتأثيرها الثقافي

يمكن القول بأن البيئة ظلَّت مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات سابقها وحاضرها. ويمكن أن نسميها “البيئة العامة” التي تتكون من الأحاسيس والأفكار والسلوكيات والأصوات والألوان والأساليب والأداء والخصوصيات الأخرى الحاوية على أعماق متنوعة من طبيعة الأمة. ولا يتعسر علينا التدليل على صحة هذا المقترب بأدلة كثيرة، لكننا نريد الآن أن نركز على أقوى حركيةٍ، وهي “شمولية” الثقافة التي تتنفسها جميع شرائح المجتمع كالهواء، وترتشفها كالماء، وتشمها كالزهور، وتصغي إليها كالطبيعة. فالثقافة إنما تتسع وتحوز على قدرة التأثير الدائم بهذه “الشمولية”. وهذا ما ينبغي أن يتبادر إلى الذهن حينما تُذكر “الثقافة”. نعم، إنها مؤثرة في راعٍ بعين المقياس الذي تؤثر به على مثقف أو علاّمة. فما يعنيه التقاء الماء والتراب والهواء والشمس في نقطة واحدة بالنسبة لوجود أي كائنٍ حيٍ ومواصلتِه لحياته، هو الذي تعنيه الثقافة بالنسبة لحاضرِ أيِّ مجتمع ومستقبلِه. نعم، إنها من أهم المقومات التي تُوصِل الفردَ والمجتمع إلى درجة النضج من الجهة النفسية والأخلاقية.

المدرسة أعطت ثمارها بمقدار أهميتها. والآن جاء أوان ترويض ما ألهمته المدارسُ من العلوم والتجارب بعجنها في معجنة أرواحنا نحن، وتغذيتها بأسس ثقافتنا نحن.

دور المدرسة بين الممكن والمستحيل

إن المدرسة بقدر ما تكون متوجهة نحو الهدف ومتسمة بالعمق تصبح ميناء أو مطارا أو منطلقا للأمة، بشرط أن تُصْهَر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية. وإلا فمن البدهي أن المدرسة لن تستطيع حل المشاكل الفردية والاجتماعية. إن المدرسة، باعتبارها دائرةَ تخطيطٍ ومركزَ مشروعٍ، من الممكن أن تعني شيئا بقدر ما يستمع الوجدانُ الاجتماعي إلى صوتِ شيء من برامجها المنسجمة مع الأخلاق العامة وثقافة الأمة… ولكن من العسير جدًا -بل من المحال- أن نستدل على أنموذج واحد أنجزته المدرسة بوحدها. لذلك، علينا أن نتقبل المدرسة بواقعها وحقيقتها، ولا نأملَ منها إلا ما يمكن أن تمنحنا إياه. ومع حفظِ ورعايةِ حق العلم، إنَّ تعليق الآمال كلها بالمدرسة منطلَقٌ مبالَغٌ فيه وتفكيرٌ سطحي وبسيط يَجعل إيضاحَ كثير من البديهيات مستعصيًا، كتحميل الأرض على قرن الثور!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ25.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts