Reader Mode

سؤال:متى يكون “النقد” إيجابيًّا بنَّاءً، ليصبح وسيلة مهمة للوقوف على الأنفع والأصلح في كل مسألة؟ وما هي آداب المناظرة؟

الجواب: من معاني النقد تقويم قول أو فعل أو تصرف ما، وذلك ببيان محاسنه ومثالبه، وبالمقارنة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون؛ والنقد من الأسس العلمية المهمة للوصول إلى ما هو مثاليّ، واستُعمل بهذا المعنى منذ عصر السلف الصالح، ومنه نقدُ السند والمتن للتثبت من صحة الحديث، ولم يقتصر منهج النقد على دراسة الحديث النبوي فحسب، بل غدا منذ العصر الأول قانونًا مهمًّا يُلجأُ ويُرجعُ إليه كي تظهر الحقيقة في كثيرٍ من الموضوعات مثل التفسير وشروح الحديث؛ وغدا هذا القانون العلمي مِصْفاةً منضبطةً جدًّا، وبه أمكن التصدي لأفكار دخيلة على الإسلام أُريدَ له أن يختلط بها، ولما تطوّر علمُ المناظرة نُقدَت التفسيراتُ والاجتهادات في مداولات ومناقشات فكريّة، فنُقدَت الأفكار وقُوِّمت واختُبرت بالمحكَمات، فظهرت بارقة الحقيقة بهذه الطريقة.

لقد استُخدم منهج النقد في حضارتنا لا سيما القرون الهجرية الخمسة الأولى للوصول إلى الأفضل سواء في العلوم الدينية أو العلوم التطبيقية.

وقد تَكوَّن تراث عظيم في علم النقد خاصة نقد السند، فدُوّنت مجلدات عن علم الرجال في ضوء علم الجرح والتعديل، ونقدوا رواة الأحاديث النبوية جميعًا، وبهذا تم التثبُّت من الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليُعلَم أن العلماء حرَصوا على ألا يصدر عنهم ما يزيد عن الغرض من النقد مهما كان موضوع النقد مهمًّا، والتزموا الدقة والخشية في هذا الشأن؛ فهذا شعبة بن الحجاج -أحد واضعي علم الجرح والتعديل- يقول: “تعالوا نغتاب في الله!” يريد الكلام في الشيوخ،[1] ومراده ضرورة العمل في نقد رواة الحديث، وضرورة قصره على ما فيه مرضاة الله.

أجل، لقد استُخدم منهج النقد في حضارتنا لا سيما القرون الهجرية الخمسة الأولى للوصول إلى الأفضل سواء في العلوم الدينية أو العلوم التطبيقية، واليوم يمكن الاعتماد على هذا المنهج العلمي أيضًا بشرط التزام الإنصاف في النقد، والحفاظ على الأدب، وأن تبحث المسألة وتُعرَض بعناية ودقة فائقة، ولهذا الموضوع أصول يمكننا أن نسميها آداب النقد ومبادئَه، نلخصها على النحو الآتي:

نحن نشكر من يرى نقائصنا ويُريها لنا -بشرط أن تكون حقيقية- ونقولُ له: جزاك الله خيرًا.

أقفالٌ مفاتيحها الإنصاف واللِّين

لا بد من كون النقد بأسلوب دَمِث، وأن يكون نمط العرض إنسانيًّا لأقصى درجة، أي ينبغي أن يكون النقد على نمط يقبله المتلقي برحابة صدر، ولا يثير حفيظة المخاطب، فلو أنكم عرضتم آراءكم المنطقية المعقولة وأفكارَكم البديلة التي تؤمنون بها في مشكلة ما عرْضًا إنسانيّ الأسلوب ليّنًا مُنصِفًا، لَقُوبِلت أفكاركم بالاحترام وبالقبول، فلو أن لكم في مسألةٍ ما رأيًا ولمخاطبكم خلافه، فإن خاطبتموه بنحو: “سيدي، كنت أحسب أن هذه المسألة على هذا النحو، غير أنني حين نظرت في رأيكم تبيّن لي أن للمسألة وجهًا آخر”، وحينئذ قد يعود بعد فترة ليقول: “تبيَّنَ لي أن رأيكم في المسألة التي تحدثْنا عنها هو الصواب”، وستردُّون عليه قائلين: ” نشكرك، يا لك من منصف!”؛ نعم، يجب إعلاءُ شأن الحق دائمًا، لذا فقد يقتضي قبول الآخرين باحترام من أجل الحقيقة واستقرارها في صدور الناس، فأحيانًا يجب على المرء التقليلُ من شأن تجاربه الخاصة وثروته العلمية وأن يُغيِّب أنانيته إذا اقتضى الأمر، أو قل: إن كان المطلوب قبول ما كان معقولًا، فيلزم تقييم أفكار الآخرين ولو كانت غير معقولة تقييمًا معقولًا، ومقابلتُهم بصدر رحب دائمًا، وتهيئةُ مناخ من الصدق والإخلاص يمكّنهم من قبول الحق والحقيقة.

الحديث إلى العامة وعدم هتك الستر

يشهد التاريخ أن من يستخف بأفكار الآخرين -مهما كان مجالها- يطرحها جانبًا دائمًا وكأنها نقود مزيفة، ويراها “هباء”، قد يفقد -دون أن يدرك- كثيرًا من الأشياء “الثمينة” التي قد تفيده؛ فلنعمل على مبدأ مقابلة الأفكار كلها باحترام بقدر معين، حتى وإن كانت نقودًا مزيفة، أو نحاسًا، أو حديدًا، أو رصاصًا، وإذا جرينا على هذا النحو اكتشفْنا طريقة صائبة جدًّا لإقناع مخاطبينا بالحقائق، وإلا فإن الكلمات التي تُقال وتُطلَق بشكل مؤذٍ مُزعِج- وكأنها مطارق تهشمُ رؤوس الآخرين- لن تحظى بقبول حسن مهما كانت أفكارًا ومشاريع رائعة، بل إنه لا مناص ولا مفر من التعرض لردة فعل إن لم ندقق في لغة النقد، حتى وإن وقعت مخالفة لحكم شرعي ثبت نصًّا، فمثلًا قد ترون صديقًا لكم ينظر إلى الحرام، فإن واجهتموه بأسلوب يهتك الستر الذي بينكم وقلتم له: “فعلت كذا وكذا، غض الطرف، ولا تقرب الحرام!” فقد يجعله نقدكم هذا -نسأل الله السلامة- وكيلًا للشيطان، لا سيما إن لم يكن مستعدًّا لنقد الآخرين تصرفاته وسلوكياته ولا يستسيغ ذلك ولا يقبله، فإن أي نقد له سيتسبب في ردود أفعال تحمله على عدم احترام الحق، ويغدو عدوًّا لقِيَمنا الذاتية؛ وقد يَعلم أن ما يُذكر له حقيقة، لكن ما يتكون في ذهنه من السفسطة يُظهر الباطل حقًّا، وذلك نتيجة الصدمة الروحية التي مُنِي بها بالصفعات التي انهالت على رأسه، بل إنه -وهو يخلد إلى النوم- ليخطط ويفكر في ردّ الانتقادات الموجهة إليه.

ولا بدّ عند معالجة أمر بالنقد والتحليل من اختيار أسلوب خطاب غير مباشر، فقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أمر ينكره لم يواجه فاعله به، بل يجمع الناسَ في مكانٍ ثم يتوجّه بخطابه إليهم جميعًا، وبذلك يتسنى للمخطئ أن يأخذ العبرة والعظة من هذا الخطاب، من ذلك ما رُوي أنّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على الصدقة، فلما قدم قال: “هذا لكم وهذا أُهديَ لي”، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا»[2].

أمر آخر ذو قدر: من هو الناقد أو الناصح؟

إذا دعت الضرورة إلى نقد شخصٍ ما، فليس لأحدٍ أن يصرّ على القيام بهذا الأمر بنفسه، وليدعْ شخصًا يحبّه المخاطب يقوم بذلك؛ لأن انتقادات الحبيب قد تُعدّ مجاملة وثناء.

أجل، إن رأيتم أنّ كلامكم ستنجم عنه كراهية من المخاطب فتجنبوا الأمر، وافسحوا المجال لغيركم؛ فليس المهمّ مَن يعبّر عن الحقيقة، بل المهمّ هو أن تتقبّلها الصدور.

وإليكم في هذا منقبة للسِّبطَيْن الحسنِ والحسينِ رضي الله عنهما؛ نعم، لم ترد في الصحاح لكن فيها دروس زاخرة بالعِبر والعظات: يُحكى أنهما رضي الله عنهما مَرَّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء، فاتفقا -وهما من أهل الفطرة النادرة والفِراسة الباهرة- على أن ينصحا الرجل ويعلّماه كيف يتوضأ، فأتياه وقالا له: “يا عمّ، انظر أَيُّنا أحسن وضوءًا”، ثم توضأ كلٌّ منهما كما رأيا جَدّهما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووالدهما عليًّا كرم الله وجهه، فإذا بهذا الرجل يقول برحابة صدر: “كلاكما أحسنَ الوضوءَ، أما أنا فلم أحسنه”، وهذا لأنهما لم يتعرضا له بطعن أو نقد صريح، ولا أنكرا عليه مباشرة.

قلت وأعيد القول: قبول النقد في مسألة ما يقتضي أسلوبًا مناسبًا يستهدف تصحيح الخطأ وإبراز الصواب، بطريقة جيدة في الإعداد والعرض.

 يمكن الاعتماد اليوم على منهج النقد أيضًا بشرط التزام الإنصاف في النقد.

تربيةُ مخاطَبٍ يتحمل النقد

وينبغي الرقيُّ بالمخاطبين إلى مستوى القدرة على تحمّل النقد، وإثارة الشعور باحترام الحق فيهم، وقد بلغ الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذا الأفق، فكان بعضهم يواجه بعضًا بأخطائهم بنفس راضية وصدر رحب، ولا يؤدّي هذا إلى حدوث أيّ خلاف بينهم ألبتة؛ فذات يوم صعد سيدنا عمر رضي الله عنه المنبر، وتحدّث عن آليات من شأنها أن تيسِّر أمر الزواج، وأن يكون المهر بقدر يطيقه الجميع، ودعا إلى ترك المغالاة في المهور، وحدَّها بقدْرٍ معين، وهو حلٌّ ناجع حقًّا لمنع الاستغلال ولو بقدر ما، وللتسامح في هذه المسألة أثر كبير اليوم في حلّ معضلة اجتماعية كبيرة.

لقد استُخدم منهج النقد في حضارتنا لا سيما القرون الهجرية الخمسة الأولى للوصول إلى الأفضل سواء في العلوم الدينية أو العلوم التطبيقية.

وهنا قامت امرأةٌ وقالت: “يا أمير المؤمنين، أكتابُ الله تعالى أحَقُّ أن يُتَّبع أو قولُك؟” قال: “بل كتابُ الله تعالى، فما ذاك؟” قالت: نهيتَ الناسَ آنفًا أن يغالوا في صداق النساء والله تعالى يقول في كتابه: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(النِّسَاء:20)؛ كان عمر حينذئذ يدير دولة كبيرة أكبر من تركيا بعشرين ضعفًا، وهو من أرغم أكبر قوتين عظميتين حينئذ على طاعته والدخول تحت إمرته، ورغم ذلك توقّف فورًا عند سماعه هذه الكلمات، وانسابت من بين شفتيه هذه الكلماتُ: “كلُّ أحد أفقهُ مِن عمر!” مرتين أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: “إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجلٌ في ماله ما بدا له”[3]؛ وحسّه المرهف هذا هو الذي جعلهم يصفونه بـ”الوقّاف عند كتاب الله تعالى”، أي كان يستطيع كبح جماح نفسه متى أراد وأينما شاء.

ولا بدّ أن يكون لدينا حميعًا هذه الحساسية وهذا الشعور؛ ويمكننا أن نتآخى ونتواءم ونعطي لأخينا حقّ النقد بكل ارتياح لما يراه فينا وفي سلوكنا وأفعالنا من قصور، حتى نتهيّأ بذلك لتقبّل أي نقد يُوجَّهُ إلينا.

من معاني النقد تقويم قول أو فعل أو تصرف ما، وذلك ببيان محاسنه ومثالبه، وبالمقارنة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.

وعلى من يفكّر في نقد مسألة أو تقويمها أن يدرُسها أولًا ويبذل قصارى جهده في قول الصواب، وأن يراعي حساسيةَ الطرف الآخر عند تحليل المسألة ونقدها، وأن يضع في حسبانه أيضًا مدى استعداد المخاطب لتقبّل ما يُوجّه إليه، فإن توقَّع أن يقابَل نقده بأيّ رد فعل من المخاطب فليس عليه أن يصرّ على إبراز الحقيقة بنفسه، بل يدع هذا الأمر لمن هو أقوى منه تأثيرًا في نفس هذا المخاطب.

ولمراعاة هذه الخصائص في عصرنا أهمية عظمى، إذ طغت الأنانية ولم يعد الناسُ يقبلون النقد.

وعلى مَن انتُقد أن يُعلِي من شأن الحق أكثر من أي شيء، وأن يقابل النقد بالشكر لا الاعتراض، يقول الأستاذ بديع الزمان: “نحن نشكر من يرى نقائصنا ويُريها لنا -بشرط أن تكون حقيقية- ونقولُ له: جزاك الله خيرًا؛ إذ كما نشكر من إذا وجد عقربًا على عنقنا وألقاها عنا قبل أن تؤذينا ونقدم له أجزل الشكر والامتنان، كذلك نقبل ونرضى عمن يُرِينا نقائصنا وتقصيراتنا ونظل في شكر وامتنان له”[4]؛ وهذا هو النضج والكمال.

[1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 6\616.
[2] صحيح البخاري، الأحكام، 24؛ صحيح مسلم، الإمارة، 26.
[3] سنن سعيد بن منصور، 1/195؛ البيهقي: السنن الكبرى، 7/380.
[4] سعيد النورسي: الملاحق، ملحق أميرداغ/1، ص 226.