Reader Mode

القول الفصل الأخير حول حقيقة “الله والكون والإنسان” هو لِحضرة محمد r الذي هو شجرة الوجود، والعلةُ الغائية لكتاب الكائنات، وأقوى صوت للدعوة إلى الحق سبحانه… إنه هو المخبِر الأخير عن “الغيب” وعن “غيب الغيب”، وهو المفسر السديد للأشياء والأحداث، وهو المبيِّن للعلاقة بين الإنسان والخالق من غير أدنى لبس، وهو الموضح عيانا وجهارًا مقتضياتِ هذه المناسبات. هو المرشد إلى القرب الرباني؛ وهو الأول والأقرب إلى الحق جل وعلا من جهة، والأخيرُ والأعظمُ أمانةً من وجهة أخرى.

الملائكة انتظرته، والأنبياء بشروا به، والأولياء ثمراته التي تَقتبس منه النورَ. مشكاة النبوة اتقدت به بدايةً، وبه أيضًا ظهرت زبدة معناها ومحتواها في أبهى صورة وأنْورِها. نورُه الأول سَبَّاق الأنوار، وطوفانُ ضوئه الأخير هو ظهوره في العالم الخارجي. ومن جهة أخرى، هو فهرست الآفاق والأنفس، ولبُّ الوجود وعصارتُه، وأضوأُ ثمارِ شجرةِ الخلق من حيث الغاية، وسيد الإنس والجن أجمعين باسم الخالق الجليل.

هو فوق الوصف أبدًا من حيث جوهره وموقعه، لا نظير له باعتبار ذاته، فريد الكون والزمان بأعماقه الأخروية، وبرهانٌ ظاهرٌ بالرسالة التي يحملها. شُهرتُه تمتد إلى ما قبل آدم النبي u، وضياؤه لهجت به الألسن من قبل وجوده، وقدومُه -وقدمه تاج رؤوسنا- إحسان للإنسانية جمعاء. وُجُوده أصفى لؤلؤة في صَدَفة الوجود، ورسالته أشمل الرسالات. عِلمه زبدة العلوم كلها، وعرفانه منبعٌ نقيٌّ وصافٍ يجمع حوله أضوأ الوجوه، وأُفقُه كمرصد تُهرَع إليه الأرواح الصافية المتطلعة إلى اللانهاية. العيون حظيت بقراءة الأشياء على وجهها الحقيقي بفضل النور الذي نشره في الأرجاء. والآذان استمعت في ترانيم أقواله إلى أنغامٍ روحانيةٍ من جواهر الكلمات لم تسمعها من قبل. وكم سرٍ ظهر عيانا بيانا، وكم فكرٍ كدِرٍ صفا إلى الصفوة في أجوائه. من رآه واستمع إليه زال عن روحه الصدأ، وانقشع عن عينه الضباب. وما إن أخبر عن أولِ كلِ أول، وآخرِ كلِّ آخر حتى عُرف كلُّ مجهول عجزت عن إدراكه عقولُ البشر، وتحلى غيرُ المعلوم بلباس العلم والمعنى، وأصبح الوجود كلُّه قصيدةً شعرية تُنشَد على كل لسان، ونغما أبديا يُفَسِّر غاية الخلق ومقصده.

العلوم ما هي إلا قطرة من بحر علمه، والحكمة برمتها رشحة نزرة من شلال معارفه. الأزمنة كلها لا تعدل لحظة من لحظات عمره. كرةُ الأرض التي لا تزن جناح بعوضة في الكائنات هي عالم يَعدل الوجودَ بسر كونها مسقطَ رأسه. هو المقدَّم في التعيُّن والبرنامجِ القدري، وهو صاحب القول الفصل الأخير في قضية النبوة، وهو الشارح الحقيقي للظاهر، وهو الناطق بأسرار الباطن. هو سلطانُ عرشِ النبوة بخَلقه خلقا ملائمًا لتلقِّي الحقائق العلمية والعقلية من روح القدس، وبشعوره الرحيب، وبإدراكه الرفيع، وبقلبه المنفسح لما وراء الملكوت، وبسر استعداده للاطلاع على ما وراء الوراء. وهو أفصح ترجمان لعالم الرسالة الإلهية مبلِّغا ما تلقاه إلى الأرواح والعقول من غير عارض أو خلل، كجهازِ استقبالٍ نورانيٍ منفتح على الماورائيات.

وهو -مع أن له خصوصياتٍ ذاتيةً سامية- يخبرنا بمقتضى نبوته عن الحق تعالى، ويُعَرّفنا به، بذاته وأسمائه وصفاته، ويُحفّز فينا الشعور بالمسؤولية أمام الحق تعالى. ومن هذه الجهة هو معرِّف ومعلمٌ أكبرُ يُبَيّن ما لا يَبِين ويُشعر أرواحَنا بما لا يُدرَك. أما من جهة تبليغ الأحكام الدينية وتعليم القيم الإنسانية وتمثيل الأسس الأخلاقية، فهو مُشَرِّع موظَّف وواضع للقوانين وقولٌ شارحٌ لحقيقة الحقائق.

إن النبوة والرسالة -وتحت وصايتهما الولاية- كما أنها متفتحة على الظاهر، كذلك هي “مُفَتَّحة الأبواب” على الباطن. وإن عقول هؤلاء أيضًا قد اصطبغت بصبغة هذا المنصب الإلهي… لكنها تقف من ورائهم بخطوات، تنتظر الأوامر منهم. إنَّ عقلاً مدرِكًا لحدوده -مثل عقولهم- داخلاً في وصاية النبوة، يتنور بـ”الروح الأعظم” ويصير بُعدًا مهما من أبعاد حقيقة الإنسان. وبمرور الزمان يبدأ باستشعار الباطن مع الظاهر، والآخرِ مع الأول.

وإن للوجود ظاهرًا وباطنًا؛ الظاهرُ يُرَى بالعين ويُدرَك بالحواسِّ، ويُقَوَّم بالعقل والمحاكمة العقلية. أما الباطن فلا تُفتح أبوابُه إلا من قِبل الله لمن خُلِق بجهاز يستشعره، فيتم الإحساس به صوتًا ونَفَسًا ولونًا ونقشًا مختلفا عن الظاهر. فالأنبياء يستمعون إلى هذا الصوت والنَفَس بموجاتٍ مختلفة الأطوال مدى الحياة، ويتصرفون أبدًا بمقتضاه.

وإن حضرة سيد الأنام -عليه أكمل التحايا- رمزٌ وصوتٌ للفائقية المطلقة من حيث جهازه الخاص المتناسب مع حاله الخاص. فالله يُسمِعه ما لا يُسمَع، ويريه ما لا يُرَى، ويُقدمه على الروحانيين بإكساب روحه ماهيةً فوق الزمان والمكان أحيانًا، فيتقدم على الملائكة، أكرمِ عباد الحق تعالى، فيصل إلى “قاب قوسين أو أدنى”. وله مكانة وقَدْرٌ متمادٍ ووطيد عند الخلق كدرجته عند الحق تعالى؛ فإنه ما حاد عن الاستقامة قيد شعرة في عمره كله، ووَثِق به الجميعُ من صديق أو عدو، وبلَّغ المخاطبين بما أُوحي إليه من الحق تعالى في بهائه الرباني، ولم يُذكَر إلا بالعصمة، ولم يُعرف إلا بالصون الإلهي، وقرأ -دائما- الطبيعةَ وما وراء الطبيعة قراءةً سديدة، وفسرهما تفسيرًا صحيحا بروحه النيرة وبفطنته النافذة المتفتحة على عوالم المادة وما وراء المادة؛ ولذلك هُرع إليه من غير توان صاحبُ كلِّ وجدان نظيفٍ متنـزهٍ عن أي حكمٍ مسبقٍ، وخضعت له أعصى النفوس تمردًا، واستسلمت له أذكى الأدمغة قاطبة؛ إذ قَرأت في رسالته غايةَ خلق العقل. وبفضله انسلخ الإنسان من الحيوانية والجسمانية وتوجَّه تلقاء أفقٍ في مرتبةِ حياة القلب والروح. هو -باعتبار أفق الوجود- المفتاحُ السري للباب الموصِلِ إلى الوجود الخارجي، وهو -باعتبارِ تحقيق الهدف من خلق الوجود- الهادي إلى الصراط المستقيم الموفي إلى الحق تعالى، ونبع شفاعة السعادة الأبدية.

كل الأنبياء الذين مضوا من قبله قد قالوا ما قاله… والأولياء والأصفياءُ مِن بعده كلهم أجمعون -وأحوالهم الخارقة شاهدة على دعواهم- صدَّقوه وشهدوا على صدقه، وأقروا واعترفوا بأن حظوتهم هي منه. فإنه قد قال: “الله” ولَفَتَ الأنظارَ إلى التوحيد. وإن أصوات الأنبياء والمرسلين وأنفاسَهم، ومشاهداتِ الأولياء والأصفياء وكشوفاتِهم طرًا، تؤيده وتسنده.

وكان صرحًا للإيمان؛ يعيش ما يقوله بمعيارٍ أدقَّ من شعرة شطرت أربعين مرة، ويزن تصرفاتِه بموازين الآخرة الدقيقة، ويحيا حياتَه في عمق كأنه يرى الله، وفي عمقِ رؤيةِ الله له. هو الأرهف حساسيةً في تصرفاته، والأعظمُ جدًّا في المسؤولية، ويسعى حثيثا في أثر حسن العاقبة ولا يحيد طرفة عين عن الهدف، بل يهرع أبدًا إلى النقطة التي اختير لها… وإذ يهرع إليها، يمد للجميع خطوط المعاني حُزمًا حُزمًا من الروابط بينه وبين الله تعالى.

وهو الذي شرح معنى الوجود فربطه بصاحبه الحقيقي، وبيَّن الحكمة المكنونة في لب الأشياء والأحداث، وذكَّرَنا مرارا بأننا لسنا وحيدين هنا، فشرح صدورنا بإشعار أرواحنا بأننا تحت الرعاية الربانية، وأزال الوحشة من نفوسنا وسما بأرواحنا إلى العلياء بنفحات أُنسه، وسقانا مشاعر السكون والاطمئنان التي نَشعر بها في ربوعنا وبين أهلينا. فإن كنا نحس بأن كل شيء في محله في هذا المأوى الدافئ، وإن كانت قلوبنا تخفق بعشق الحقيقة، وإن كنا نُطلِق أنظارنا في آفاق الكون الشاسعة مفكِّرين متأمِّلين.. فهذا كله بفضل النور الذي أوقده في عقولنا. وكلُّ ما نعرفه عن الإنسان والوجود والكائنات برمتها، فهو تفصيل لمجمَل ما أودعه في نفوسنا، ونموٌّ لبذور الحقائق التي بثها في أرواحنا.

هو باني الإنسانية من جديدٍ، ولا يزال، وسيبقى بانيًا، في أمسِها ويومِها وغدها. وكما بدَّل في عصره بحملة واحدة، وبنفخة واحدة، مفاهيمَ ضالةً، وسلوكياتٍ غير إنسانية، وانحرافاتِ سوءِ الأخلاق والأمزجة المغروسة في الطبائع من آلاف السنين، فسيُسمِع صوتَه -يقينًا وحقًا- للجموع المنفلتة، المنفرِط عِقدُها اليوم، ويضبطهم بضوابطه إن عاجلاً أو آجلاً، ويُظهر قوة رسالته… وسمِّه -إن شئت- تجديد القراءة السديدة والتفسير الصائب في حقيقة (الإنسان والكون والألوهية) مرة أخرى، واتخاذ الإنسان موقفا يناسب دوره اللائق به في الوجود.

لقد أُرسل حضرة سيد الأنام (عليه ألفُ ألفِ صلاة وسلام) برسالة تتعلق بكل أحد وكل شيء. وكان يوفي وظيفتَه حقَّها ويؤديها بعمق فتمتلئ بحبه الأفئدةُ وتنجذب إليه القلوبُ. فهو يُشعُّ تكامُلاً شاسعًا في خلقته، وصدقا منقطعَ النظير في تصرفاته، وربانيةً تتجاوز جوانبه المادية دائمًا في سلوكياته. وهو -فوق هذه الجماليات الظاهرية الباهرة- صاحبُ أخلاقٍ رفيعةٍ لم يطلها أحد، سمَّاها القرآن الكريم بـ”الخلُق العظيم”.. حتى إن مَن يدخل رحابه لمرة واحدة من غير أحكام مسبقة، لا بد أن يدخل تحت تأثيره ويتعلقَ به إلى الأبد. وعنده -مع هذه المحاسن والمعالي- بيانٌ يأخذ بالألباب؛ فإذا تكلم أبكمَ أمهرَ حُذَّاق اللسان، فيغوصون في مراقبة السكوت، وينجرفون في تيارِ جذبات أقواله.

وإليك شيئًا من تفصيل ما قلناه آنفا: لقد وهبه الله تعالى السعة في خلقته الداخلية والخارجية، فهو مَهيب في تواضعه، جذاب في شخصيته؛ حتى إن دَخَلَتْ إلى حضرته أشدُّ النفوس كبرًا وغرورًا، ارتعشتْ من هيبته، وتصرفتْ بغير ما نَوَتْ وتصورت؛ وإن رسل كسرى المتكبرين ذهلوا وأُلجموا حيال صرح المهابة هذا. ومع هذه الهيبة وهذا الجدِّ والوقار، كان فيه لينٌ عجيب يجذب إليه النفوس، حتى لَيُحِسُّ من يَعرفه عن قرب بأنه أقرب إليه من الولد والأم والأب وكلِّ حبيب، بل يكاد “يدمِن” عليه فلا يود أن يغادر مجلسه أبدًا. أحوالُه وتصرفاتُه كلُّها تبث ثقة عميقة في القلوب، وأقوالُه وأفعاله وملامحه تدل على حضوره الدائم أمام الله تعالى. يبث الأمان دومًا، وينشر الاطمئنان في الجميع حُزَمًا ورُزَمًا.

فقد عُرف بالأمين أولاً وآخرًا؛ فالأمن يُشعُّ من نظره، وكلامُه يدور بلا توان حول الأمن، وفي حضوره تُسمع نغماتُ الأمن. وكانت تصرفاته وعقله وروحه وعواطفه ومنطقه في توازن وانسجام تام. وإن ذكاءه المتقد، وفراسته السديدة، وثباته الذي لا يعرف التردد، وعزمه وإقدامه، وإستراتيجيته المحيرة للعقول مع تجنبه الكذب والخداع، وصبره وثباته حيال أشد الأهوال، وتبسمه في وجه المصائب، وقراءته للملمَّات قراءةً صائبة، واستخلاصه منها عبرًا ملء الكتب، وحِلمُه الوطيد، ووقارُه الراسخ حيال الأحوال الموجِبة لأشدِّ العنف والغضب والحدَّة، لهي نبذة يسيرة من خصاله وأخلاقه التي تُبرز شخصيته المتميزة بين البشرية، وتُفصح عن مقامه ومكانته ووقفته الفريدة التي تناسب هذه المكانة السامية. فله المواقف البطولية التي تتبدل بها الهزيمة إلى الظفر، والفرُّ إلى الكر، فترفل رايات النجاح الإستراتيجي في خِضَمِّ المعارك ودخان الحروب.

كان بين أهله ربَّ عائلة لا نظير له ولا شبيه، وبين أصحابه معلِّمًا ومرشدًا كاملاً يدلف إلى شغاف قلوبهم بلينه الأخوي، وهاديًا سديد الرأي لا يخذل من اتبعه، وخطيبًا سيدًا على الكلام، ذا قلب رباني، وحكيما أستاذًا في استخدام العقل، ورئيسَ دولةٍ لم يُعرف مثله، وقائدا عظيما يحوِّل الهزائم إلى انتصارات بحَملة واحدة. فأنواع الكمالات كلها كانت تَبلغ فيه الذروةَ العُليا، لكنه كان يتصرف أبدًا بين الناس كفرد من الناس، ويَعُدُّ نفسَه واحدًا منهم، فيؤذيه -مِن كثرة تواضعه- أن يُسنِد الناسُ إليه -أدبا منهم- مقاماتٍ رفيعةً هو حقيق بها أصلا، فيحذِّر أصحابَه بين فينة وأخرى من ذلك تحذيرًا شديدًا قد يصل إلى حد التوبيخ أحيانا.

كان بمثابة “علة غائية” للوجود، لكنه ما كان يوليه اهتمامًا بقدر جناح بعوضة. رَفع السلاطينَ إلى العروش وألبسهم التيجان، لكنه عاش زاهدًا أشد الزهد، فكأنه صائم عن الدنيا؛ فأشبع ولم يأكل، وألبس ولم يلبس، وهتف بالشكر مئات المرات حيال قطرة من نعمة، مسشعرا فضل الله عليه وإحسانه على الدوام. فهو يسابق الملائكة في مضمار المعرفة الربانية والمحبة والخشية. أجل، كان في الدنيا، لكنه لم يكن دنيويا، بل كان في طريق العقبى… بل لم يكن مرتبطًا حتى بالعقبى أوّلا وبالذات، ذلك لأن قلبه كان معلقا بربه، وعينه في آثاره وفي أسمائه الحسنى التي تضفي على آثاره ألوانًا وصورا ومحاسن شتى. كان ينظر إلى الدنيا وكأنها خليج للعقبى، ويراها وكأنها مزرعة يُزرَع فيها ويُحصَد، ويحيل الحاصل إلى الآخرة. وكان يَهُبُّ ويروح ويغدو كالرياح التي تحمل البذور يمينا وشمالاً لتُودِعها أمانةً للفلْق والنماء، فكان يعتني بالفقراء ويرعاهم، ويُطعم الجياع، وكثيرًا ما يبيت هو جائعًا خاوي البطن. إنه سلطانُ عالَمَي الدنيا والآخرة، لكنه إذ ارتحل إلى ربه، لم يورث أهله قصرًا ولا عقارًا ولا مالاً ولا ريشًا. فقد عاش عيشة تليق به، وقوّم الدنيا تقويما يناسب شخصيته، ورحل منها رحلة توافق مكانته وعظمته. ومعلوم أنه لم يكن تاركًا للدنيا تماما، كما أنه لم يكن جامعا لها ومشغولا بها قط. فإنه كان يهتم بالدنيا بقدر حجمها وفنائها، ويهتم بالآخرة وما وراء الآخرة بحسب خلودها وسرمديتها، فيتخذ موقفه منهما بناء على هذا التصور.

ومع مهابته الرائعة المحيرة للعقول الحاصلة من علوِّ الأصالة وسموِّ النجابة وصِلتِه الوثيقة بالحق تعالى، كان متواضعًا أشد التواضع وكأنه يجمع بين الأضداد، حتى إن من لا يعرف خصاله وسجاياه المذكورة آنفًا، كان يحسبه من آحاد الناس. كان لا يُعير اهتماما بتعظيم أصحابه وتوقيرهم له، فيَقعد معهم ويأكل ويشرب، ويستر عنهم فوارقه وخصوصياته السامية التي تفرَّد بها عنهم أشدَّ السترِ حتى لا يُشعرَهم بالتمايز، ويريحُ مَنْ حوله أحيانًا بمُلَحٍ من ألوان التجليات الجمالية من العبرة والحكمة والمزاح أحيانا لكي لا يثقل عليهم ما في طبعه من المهابة والعظمة والمخافة؛ فهو يزين عِزّتَهُ بالتواضع، ويلطِّف مهابته بالشفقة، ويقدم لونه الناسوتي( ) ليزيد حلاوة إلى شهد مقامه وحلو طعمه.

كان حليما ومأمونا ورزينا، ليِّنا أعظم اللِّين حتى في الأحيان التي تُستَفز فيها وتثار مشاعرُ الحقد والكره والغضب، فيخفِّفُ شدة الطيش وحِدَّةَ الغيظ، ويسكِّن بنظرة واحدة عداوةَ ألدِّ أعدائه؛ وكان كلما أريد سحبه إلى موقف الخصم قفز إلى موقع الحَكَم. كان عفوًّا وسمحًا ما لم تُنتهك حرمة لله تعالى أو يهضمْ حقٌ عام. وفي السيرة النبوية مئات الأمثلة والشواهد على عفوه وصفحه وسماحته.

وما كان له نظير في الوفاء بالوعد؛ فلم يخلف وعدًا قط ولو مرة واحدة، ولم يرجع عن قول ألبتة، ولم يقل شيئًا ثم خالفه، أو نَطَق بشيء خلاف الواقع حتى وإن كان إيماء، سواء قبل البعثة أو بعد نيله شرف النبوة. فسيرتُه صرح للأمانة والصدق والوفاء، وحزمُه ضدَّ من يخون العهد والميثاق معلومٌ ومشهور.

كان سلطانَ عالم البيان، ولقد بلغ جوهرُ القول قيمتَه الحقيقية على لسانه. لم يمسك بيده قلما ولا قرطاسا، ولم تطالع عيناه كتابا، ولم يجلس في حلقة درس، ولم يحتج قط إلى أن يقول لأحد: “أستاذ”؛ بل كان أستاذ الكل في الكل، وما من شيء يستطيع أن يمس أستاذيتَه الكليةَ. وفي هذا صيانة من الله لأوامره الإلهية أولاً، وصيانةٌ لِمَلَكات النبي الفطريةِ ثانيا وتاليا، من التأثيرات والتصورات الخارجية، حتى لا تُكَدِّر المكتسباتُ الذهنية والمعلوماتُ الأَجنبية تفسيرَ الأوامر الإلهية، ولا تتلوَّن بلون غيرِ لونها، أو تصبَّ في قالب غير قالبها. فكان أميا بهذا المعنى -ونفوسنا فداء لذاك الأمي-، ولكن له أقوال وأحكام وقررات في شتى الشؤون من أمور الدنيا والعقبى -باعتباره أستاذ الكل- حيَّرت وأدهشت الكلَّ؛ بدءًا مِن المتبحرِين في العلوم وامتدادا إلى فحول العباقرة، وإلى العقول الضليعة في الفلسفة، وإلى النفوس الصافية والأرواح المستنيرة. والتاريخُ يشهد أن أحدًا لم ينل من رصانة بيانه، أو يقدحْ في حكم له، أو يتجاسرْ على أن ينتقص من إجراء له.

كان خزينة للمعرفة وحوضا للعلم نقيا متلألئا، لم يعترض أحد على إِخباره عن الأحداث الغابرة، ولا إخبارِه عن شؤون الديانات والمذاهب والثقافات والتقاليد والأعراف العائدة إلى أمم بائدة في التاريخ، وما كان لأحد أن يعترض، لأنه رسول الله، ومصدرُ علمه السديد الذي يصب في ذلك الحوض وتلك الخزينةِ هو الله تعالى. فكان في البيان سلطانَ البيان وصاحب القول الفصل، وكان في المنطق صرحَ محاكمةٍ، وفي الفكر بحرًا محيطًا كفؤا لضخامة مهمته ورحابة رسالته العالمية. إن عباراتِه من السلاسة والانسياب، وبيانَه من الوضوح والفصاحة، وأسلوبَه من الغزارة والتلون والبهاء، بحيث يستطيع أن يعبِّر عن حقائقَ ملء الأرض في جملة أو جملتين، ويضمِّنَ شؤونا تَسَعُ المجلدات في كلمات، وينطق بجواهر -وأيما جواهر- ليودعها عند أساطين التفسير والتأويل. وفي حديثه: “أعطيتُ جوامع الكلم”( ) إشارة منه إلى هذه الرحاب الفسيحة.

وكان الناس يُمطرونه بوابلِ أسئلتهم في كل شأن من كل جهة، فيردُّ عليهم من فوره بغير أدنى تلكؤ. كلامُه سهل يفهمه السواد الأعظم، ويعبر عن مقصوده بعيدًا عن التشوش أو التشويش في إيجاز صاف وسيّال. وحين يتكلم يراعي مستوى المخاطبين لكي يفيدهم، من عالم وجاهل، وذكي وغبي، وقليلِ خبرة وخبير، وشاب وكهل، ورجل وامرأة، فيَبعث الاطمئنان في قلوبهم.

وإن أقواله وخطبه كثيرة، حيث خاض في شؤون مختلفة، وحلَّل موضوعاتٍ متنوعةً، لكنه لم يجانب الحقيقة والواقع في أي من أقواله وأفكاره. فلم يستطع أحد أن يلحظ على بياناته وأقواله ما يخالف الواقع، حتى إن ألد خصومه الذين يترقبون زَلة منه ليوقعوا به، لم يجرؤوا على إسناد الكذب إليه، بل عجزوا عن ذلك.

والحق أن من صان لسانه وكل تصرفاته عن مخالفة الواقع صونًا أدق من الشعرة، من طفولته إلى شبابه، ثم إلى سن تَشَرُّفِه بالنبوة في الأربعين، لا يُتصور أن يقوم بادعاء النبوة زورًا. وإنَّ تصوُّرًا كهذا شيءٌ يتجاوز الإثم إلى تعصب كُفريٍّ أعمى، واستهانةٍ بالعقل والمنطق. هذا، وإن تبليغاته وموضوعاتِ أحكامه رحيبةٌ وَسِعَت الماضيَ والحاضر والمستقبل، ومحتوياتها متنوعة تتعدى عقول البشر: فهو يتكلم في العقائد، ويضع الأحكام في العبادات، ويتحدث في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والإدارية، وينفّذ ما يقول، ويَجني ثمراتِ ما ينفذ، ويتخذ من التاريخ شاهدا على صواب الأسس التي وضعها فيودع هذه الشهادة أمانة في الضمائر المنصفة البعيدة عن الأحكام المسبقة، وبعد ذلك يوقِّع عليه بختم التصديق آلافُ المفسرين والمفكرين والخبراء المتفننين في فنون كثيرة، ومئاتُ الفلاسفة، على ما قال، وعلى الأسس الاجتماعية والاقتصادية والنُّظُم العسكرية والإدارية، والقواعدِ التربوية التي وضعها. وزد عليهم جميعًا أن ملايين الأولياء والأصفياء يؤيدونه تصديقًا في كل حكم وفي كل بيان لهم، ويهتفون بأنهم بلغوا المراتب والمقامات بهدايته. لذلك فإن من يقول له: “لا”، فهو إما مخبول لا يدري ما يقول، وإما بائس بسوء الحظ مغسول الدماغ. فما شهد الماضي والحاضر أحدا مثله استطاع أن يقول شيئًا أو يضعَ أحكاما ثابتة في مسائلَ كثيرةٍ مختلفة، ولا سيما في موضوعاتٍ تتطلب حنكة واختصاصا ومهارة، فيدومَ طريًا ونديًا أبدًا مع الدهر. وكما نبَّه بديع الزمان النورسي رحمه الله: “إن الإنسان قد يستطيع أن يقول شيئًا ذا بال في بضعة فنون أو علوم، لكن حضرة ذاته r أدلى بدلوه في شؤون دقيقة تتعلق بالوجود والأحداث كلها، وقال أقوالا نافذةً في كل زمان ومكان، وبأسلوب بديع في المهارة والحكمة، وباطمئنان من غير تردد وتلكّؤ، لا يملك حياله مَن رآه وعرفه، ومن سمعه فأنصت إليه من غير حكم مسبق إلا أن يقول: “آمنتُ وصدّقتُ”.

المصدر: مجلة “يَنِي أميد” التركية، يناير 2003؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغْلو.

فهرس الكتاب